وَلِعَدَمِ الْفَضِيلَةِ فِي الْمَالِ مَنَحَهُ اللَّهُ الْكَافِرَ وَحَرَمَهُ الْمُؤْمِنَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
كَمْ كَافِرٍ بِاَللَّهِ أَمْوَالُهُ * تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ
وَمُؤْمِنٍ لَيْسَ لَهُ دِرْهَمٌ * يَزْدَادُ إيمَانًا عَلَى فَقْرِهِ
يَا لاَئِمَ الدَّهْرِ وَأَفْعَالِهِ * مُشْتَغِلاً يَزْرِي عَلَى دَهْرِهِ
الدَّهْرُ مَأْمُورٌ لَهُ آمِرٌ * يَنْصَرِفُ الدَّهْرُ عَلَى أَمْرِهِ
وَقَدْ بَيَّنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَضْلَ مَا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ فَقَالَ: الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَالِ. الْعِلْمُ يَحْرُسُك، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالِ. الْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. مَاتَ خَزَّانُ الامْوَالِ وَبَقِيَ خَزَّانُ الْعِلْمِ أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَشْخَاصُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ.
وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَيُّمَا أَفْضَلُ الْمَالُ أَمْ الْعِلْمُ؟ فَقَالَ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَيُّمَا أَفْضَلُ الْمَالُ أَمْ الْعَقْلُ.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:
لاَ خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ خَيْرُ ثَنَائِهِ * فِي النَّاسِ قَوْلَهُمْ غَنِيٌّ وَاجِدُ
ص60:
وَرُبَّمَا امْتَنَعَ الإنْسَانُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِكِبَرِ سِنِّهِ وَاسْتِحْيَائِهِ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي صِغَرِهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ فِي كِبْرِهِ، فَرَضِيَ بِالْجَهْلِ أَنْ يَكُونَ مَوْسُومًا بِهِ وَآثَرَهُ عَلَى الْعِلْمِ أَنْ يَصِيرَ مُبْتَدِئًا بِهِ. وَهَذَا مِنْ خِدَعِ الْجَهْلِ وَغُرُورِ الْكَسَلِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إذَا كَانَ فَضِيلَةً = فَرَغْبَةُ ذَوِي الأسْنَانِ فِيهِ أَوْلَى. وَالابْتِدَاءُ بِالْفَضِيلَةِ فَضِيلَةٌ. وَلاأنْ يَكُونَ شَيْخًا مُتَعَلِّمًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ شَيْخًا جَاهِلاً.
حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْحُكَمَاءِ رَأَى شَيْخًا كَبِيرًا يُحِبُّ النَّظَرَ فِي الْعِلْمِ وَيَسْتَحِي فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا أَتَسْتَحِي أَنْ تَكُونَ فِي آخِرِ عُمُرِك أَفْضَلَ مِمَّا كُنْتَ فِي أَوَّلِهِ؟
وَذُكِرَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْفِقْهِ فَقَالَ: يَا عَمِّ مَا عِنْدَك فِيمَا يَقُولُ هَؤُلاَءِ: فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَغَلُونَا فِي الصِّغَرِ وَاشْتَغَلْنَا فِي الْكِبَرِ. فَقَالَ: لِمَ لاَ تتَعَلَّمُهُ الْيَوْمَ؟ قَالَ: أَوْ يَحْسُنُ بِمِثْلِي طَلَبُ الْعِلْمِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَاَللَّهِ لاَنْ تَمُوتَ طَالِبًا لِلْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَعِيشَ قَانِعًا بِالْجَهْلِ.
قَالَ: وَإِلَى مَتَى يَحْسُنُ بِي طَلَبُ الْعِلْمِ؟ قَالَ: مَا حَسُنَتْ بِك الْحَيَاةُ، وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ أَعَذْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَهْلِ عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَطُلْ بِهِ مُدَّةُ التَّفْرِيطِ وَلاَ اسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ الإهْمَالِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: جَهْلُ الصَّغِيرِ مَعْذُورٌ، وَعِلْمُهُ مَحْقُورٌ، فَأَمَّا الْكَبِيرُ فَالْجَهْلُ بِهِ أَقْبَحُ، وَنَقْصُهُ عَلَيْهِ أَفْضَحُ؛ لِأَنَّ عُلُوَّ السِّنِّ إذَا لَمْ يُكْسِبْهُ فَضْلاً وَلَمْ يُفِدْهُ عِلْمًا وَكَانَتْ أَيَّامُهُ فِي الْجَهْلِ مَاضِيَةً، وَمِنْ الْفَضْلِ خَالِيَةً، = كَانَ الصَّغِيرُ أَفْضَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرَّجَاءَ لَهُ أَكْثَرُ، وَالأمَلَ فِيهِ أَظْهَرُ، وَحَسْبُك نَقْصًا فِي رَجُلٍ يَكُونُ الصَّغِيرُ الْمُسَاوِي لَهُ فِي الْجَهْلِ أَفْضَلَ مِنْهُ.
ص62:
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ صَاحَبَ الْعُلَمَاءِ وُقِّرَ، وَمَنْ جَالَسَ السُّفَهَاءَ حُقِّر.
وَرُبَّمَا مَنَعَهُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ مَا يَظُنُّهُ مِنْ صُعُوبَتِهِ، وَبُعْدِ غَايَتِهِ، وَيَخْشَى مِنْ قِلَّةِ ذِهْنِهِ وَبُعْدِ فِطْنَتِهِ. وَهَذَا الظَّنُّ
اعْتِذَارُ ذَوِي النَّقْصِ وَخِيفَةُ أَهْلِ الْعَجْزِ؛ لِأَنَّ الإخْبَارَ قَبْلَ الاخْتِبَارِ جَهْلٌ.
ـ[عبدالرحمن السديس]ــــــــ[14 Jan 2006, 09:49 م]ـ
ص64:
¥