تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[سؤالان ولا الخليل بن أحمد لهما]

ـ[ابن الشجري]ــــــــ[05 Dec 2005, 06:09 ص]ـ

تطرق سمعك أحيانا بعض الأسولة التي لسهولتها تصيبك بالعجمة ويستعصي عليك إجابتها، أسمعتم بمثل هذا؟!.

نعم، فكم من سؤال شرود على الفهم فككنا عقاله وحططنا شماله بحمد الله، إلا أن هذه الأسولة السهلة البريئة تؤرقني في كثير من المرات، وكأنها تريد التعبير عما يسميه البعض بالسهل الممتنع، فتأخذ بي كل مأخذ، حتى أضرب لها الأخماس بالأسداس وأعوذ وألوذ بالله رب الناس، وتلجمني فلا أجد لها جوابا إلا ابتسامة عريضة يكاد السائل من هولها يفر، وأكاد من تصنعي لها أسقط فأجر، وما وسعني إلا أن أردد لها أبيات ألسامرائي

طليق القول في الجلَىَ عييّ=وسَحبان البلاغة باقليُّ

أأحصر والبلاغة طوع أمري=يلف خواطري ليل دجيّ

أأهرع للدموع وقد عصتني=ودمع الحر في البلوى عصيُّ

وقد تغني دموعٌ ذاتَ خدر=ويأنف ذرفها شهم أبيّ

وقد كنت أحسبني في هذا وحدي، حتى ضاق صدري وعيل صبري، وهالني أن مزجت في علمي الصفو بالكدر، وجمعت فيه بين العرر والغرر، واستغربت كيف أصابني هذا حتى قرنت في فهمي بين الأروى والنّعام، وجمعت في كلامي بين التبر والرغام، وقانا الله وإياك شر اجتماع الفصاحة والعي، فهذا البلاء أشد مايكون من العجمة كما قال الأصمعي.

فلما علمت بأني لست في هذا الوادي وحدي، وأنه يصحبني فيه كثير من بني جنسي، تذكرت قول القائل: في كل واد بنو سعد، عندها سري عني وعزفت عن ندب حظي، ودعاني هذا للتفكر في حكمة الباري، وكيف تفرد بالكمال المطلق ومطلق الكمال، وجعل من أضعف خلقه في كثير من الأحيان مايبكت كل عليم فصيح، ويرتعد منه مفصل كل شديد قوي.

أما رأيت بنات الليل ـ البعير ـ هذا المخلوق العجيب في خلقته وطبعه كيف ترعبه الفأرة الصغيرة، حتى لربما أخذت بزمامه فذهبت به حيث شاءت (1).

بل الأدهى من هذا أبا مزاحم ـ الفيل ـ (2) هذا المخلوق العظيم في خلقته كيف يرعبه السنّور الصغير، ويرعد منه كل مفصل كبير، وأظنك تعرف الفيل، أم أن حالك كحال أسلافنا رحمهم الله، فما كانت العرب تعرفه ولا تجده بأرضها، إلا أنها تقرأه في كتاب ربها.

ويحضرني هنا قصة حسنة لن أستطيع المرور دون ذكرها، أسوق منها ماعلق بالذهن، وهو ما يحكى في ترجمة يحيى بن يحيى المصمودي ويقال الصادي نسبة إلى إحدى قبائل البربر، الليثي بالولاء لأن أحد أجداده منقايا أول من أسلم على يد يزيد الليثي ـ وهذا من غرائب النسب التي استغربها بعض أهل العلم رحمهم الله ـ كان هذا الرجل مفخما جدا في بلاد المغرب العربي، لدينه وعلمه ورجاحة عقله، وقد كان هذا من أعظم أسباب انتشار مذهب الإمام مالك في بلاد المغرب العربي، ويا لرجاحة العقل التي كانت سبب ميل أمة بأكملها لتقليد مذهب إمام معتبر، رحمه الله وسائر أئمة المسلمين، وكان هذا العالم الكبير يلقب بالعاقل، لقبه بذلك شيخه الإمام مالك في مجلس من مجالس العلم لأجل هذه القصة.

وهي: أن يحيى كان في مجلس من مجالس الإمام مالك للدرس، إذ رفعت ألأصوات واشتدت الجلبة بمقدم الفيل، حيث كانت العرب تتعجب من خلقته، لأنها لم تشاهده في أرضها إلا فيما ندر، ولذلك كان يفتخر برؤيته من رآه، كما يذكر من أبيات لأبي الشمقمق:

ياقوم إني رأيت الفيل بعدكم=فبارك الله لي في رؤية الفيل

رأيته وله شئ يحركه=فكدت أصنع شيئا في السراويل

فكان أن أسرع الناس لرؤية هذا المخلوق، وكان من بينهم من جمعهم مجلس الدرس بين يدي مالك رحمه الله، إلا هذا الشاب الوافر الحلم فما تحرك من مجلسه وما اعترته خفة الآخرين، بل استمر على هيئته في طلب الحديث والاستملاء له، فعندئذ خاطبه الإمام مالك بالعاقل، وحق له هذه التسمية.

رحم الله حالنا أيام الشبيبة وقبل أن يختط الشيب في الرأس خطط، ياطالما شرقت بالدمع عيني لمرور الطائرة أمام ناظري، وكم بحت الأصوات في نداء الصحبة والرفقة لمتابعة هذا المخلوق العجيب الذي يشق بنات مخر في كبد السماء، فكانت تجتهرنا لغرابة صورتها وعظيم خلقتها، بل وأعجب من ذلك أن هذا كان حال أساتذتنا غفر الله لهم، فربما أخرجنا من مجالس الدرس لرؤية هذا المخلوق العجيب، (فأين مالك عنا، وأين العقل منا)!.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير