تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

اقتربوا أكثر فأكثر لتروا الدموع وتسمعوا البكاء، فهذا عبدالله بن الشخير رضي الله عنه يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء) [رواه أبو داود والنسائي]، وهذا ابن مسعود يتلو على الرسول صلى الله عليه وسلم من سورة النساء، حتى قوله {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}، قال: فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل) [متفق عليه].

فلنعش مع الأصحاب رضوان الله عليهم .. فهذا أبو أمامة رضي الله عنه يخبر فيقول: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ورققنا فبكى سعد فأكثر البكاء) [رواه أحمد]، وارقبوا صحب محمد وهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول صلى الله عليه وسلم بكاءهم بكى معهم فبكينا ببكائه) [رواه البيهقي في شعب الإيمان].

واستمعوا معي إلى راوية الإسلام وعلم أصحاب الصفة أبو هريرة رضي الله عنه فقد بكى في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: " أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ولكني أبكي على بعد سفري، وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود إلى جنة أو نار، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي " [شرح السنة للبغوي 14/ 373]، الله أكبر يا أبا هريرة لقد أتعبت من بعدك، وما عسى أن يقول أمثالنا إن كان هذا قول مثلك؟!

ولنمض مع أجيال الإيمان في عصور التابعين ومن بعدهم، فإن لغة البكاء وحديث الدموع مأثورة عندهم ومعروفة بينهم، أما سمعتم عن محمد بن واسع رحمه الله وأنه كان يبكي حتى يرحمه الناس، وسئل عن بكائه فقال: " يا أحبائي كيف لا يبكي من لا يدري ما أثبت في كتابه، ولا يدري ما يختم به كتابه "، ولله در سفيان بن عيينة حين أتاه سائل فسأله شيئاً ولم يكن عنده ما يعطيه، فبكى رحمه الله، ولما سئل قال: " أي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل خيراً فلا يصيبه "، بكاء على فوات الطاعة والخير، وبكاء آخر من الخشية روته فاطمة بنت عبدالملك عن زوجها أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز: " ما رأيت أحداً قط كان أشد فَرَقاً من ربه من عمر، كان إذا صلى العشاء قعد في مسجده ثم رفع يديه فلم يزل يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه " [شعب الإيمان للبيهقي 3/ 209]، وأبو سهل الصعلوكي يسمع الحمامة قرب الفجر فيعاتب نفسه قائلاً:

أنام على سهو وتبكي الحمائم ... وليس لها جرم ومني الجرائم

كذبتُ لعمر الله، لو كنت صادقاً ... لما سبقتني بالبكاء الحمائم

ولنطو صفحات التاريخ لننتقل إلى أبي البقاء الرندي وهو يبكي ضياع الأندلس، ويحزن لحال المسلمين ويقطع القلوب بشعره حين قال:

تبكي الحنيفية البيضاء من أسف ... كما بكى لفراق الإلف هيمان

على ديار من الإسلام خالية ... قد أقفرت ولها بالكفر عمران

حيث المساجد قد صارت كنائس ... ما فيهن إلا نواقيس وصلبان

حتى المحاريب تبكي وهي جامدة ... حتى المنابر ترثي وهي عيدان

لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في القلب إسلام وإيمان

واليوم ما حال بلاد الإسلام، وما حال المسلمين؟ وأين بكاؤهم ودموعهم من لهوهم وضحكهم؟

معاشر المؤمنين يا دعاة الإسلام:

الحال يرثى له، فالقلوب - إلا ما رحم الله – قاسية، والعيون جامدة، استمعوا إلى عبد الأعلى التميمي وهو يقول: " من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علماً ينفع، لأن الله تعالى نعت العلماء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [التخويف من النار لابن رجب ص23]، واستمعوا إلى وصية ابن مسعود: " ليسعك بيتك، وابك من ذكر خطيئتك، وكف لسانك " [الزهد لابن المبارك، ص42].

أين دموعكم والقرآن يتلى، وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تروى، والموتى تترى، والمواعظ شتى، والتقصير يطغى؟

خذوا عن الربانيين أوصاف الخائفين في مثل مقالة السري السقطي: " للخائف مقامات منها الحزن اللازم، والهم الغالب، والخشية المقلقة، وكثرة البكاء، والتضرع في الليل والنهار، والهرب من مواطن الراحة، ووجل القلب " [الزهد لهناد ابن السري، ص267 - 268]، فتشوا عن هذه الصفات، وابحثوا عن تلك الخلال، وابكوا على تلك الحال، وما صار إليه المآل، فالقلوب لاهية، والألسن لاغية، والخشية ذاهبة، فراجعوا أنفسكم، وتفقدوا قلوبكم، واجتهدوا في البكاء فإن لم يكن فليكن التباكي " فقد قال بعض السلف: ابكوا من خشية الله فإن لم تبكوا فتباكوا " [زادالمعاد1/ 185]، " وإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه " [إحياء علوم الدين 1/ 277].

خذوا هذه الوصفة لعلها تقود إلى البكاء: " طريق تكلف البكاء أن يحضر قلبه الحزن فمن الحزن ينشأ البكاء ... ووجه إحضار الحزن أن يتأمل ما فيه - أي القرآن الكريم - من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود، ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره فيحزن لا محالة ويبكي، فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر أرباب القلوب الصافية فليبك على فقد الحزن والبكاء فإن ذلك أعظم المصائب "

] والله أسأل أن يهدنى واياكم الى مافيه الخير انه ولى ذلك والقادر عليه]

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير