ومذهب أبي الحسن أنها مرتفعة بالظرف.
ولم يقل أحد إنها زائدة غير معتد بها.
ثم قال:
ولا يجوز عندي أن تكون (أنّ) الثانية بدلا من الأولى وذلك أنها لا تخلو من أحد أمرين:
إما أن تبدل من أن وحدها من غير أن تتم بصلتها، وإما أن تبدل منها بعد تمامها بصلتها، فلا يجوز أن تبدل منها من غير أن تتم كل واحدة منهما بصلتها، لأنها قبل أن تتم بصلتها حرف، ولم نرهم أبدلوا الحرف من الحرف كما أبدلوا الاسم من الاسم والفعل من الفعل، فقد بطل أن تكون (أنّ) بدلا من (أنّ) على هذا الوجه.
ولا يجوز أيضا أن تبدل (أنّ) الثانية من قوله (أيعدكم أنكم) من الأولى لأن صلة الأولى لم تتم، وإنما تتم اسما إذا استوفت صلتها تامة، وصلتها تكون اسما كان مبتدأ قبل دخولها عليه مع خبره، وقوله (إذا متم) لا يكون خبرا لاسم (أنّ) كما لا يجوز أن يكون خبرا له قبل دخول (أنّ) ألا ترى أنك لو قلت: أنتم إذا متم، لم يجز لأن الظرف من الزمان لا يكون خبرا عن الجثث، وإذا لم يجز أن تكون خبرا له فقد ثبت أن (أنكم) الأولى لم تستوف صلتها، وإذا لم تستوف صلتها لم يجز البدل منها لان الاسم المبدل معه حكمه أن يكون تاما كما أن البدل كذلك.
ثم ذكر أبو علي أنه لا يجوز أن تكون أنكم الثانية تكريرا للأولى للتوكيد على نحو قريب مما ذكره في البدل أي أنه لا يكرر الموصول دون صلته للتوكيد ثم قال: فإذا ثبت أنه لا يجوز حمل (أن) على شيء من هذه الوجوه الثلاثة (أي البدل والتوكيد والزيادة) ثبت أنها مرتفعة بالظرف.
كأنه في التقدير أيعدكم أنكم إذا متم إخراجكم، فموضع (إذا متم) إلى قوله (مخرجون) رفع، لكون ذلك جملة ووقوعه كله خبرا (لأنّ) الأولى.
وقد أجاز ابن مالك في شرح التسهيل وجها قريبا من هذا الوجه، وهو أن يكون الظرف خبرا مقدما وأن الثانية مع صلتها مبتدأ مؤخرا، والجملة (إذا متم ... أنكم مخرجون) خبرا لأن الأولى، و أجاز وجه التوكيد وقال: والتوكيد أجود.
وبعد أن أورد شواهد على توكيد الحرف مع عامده في نحو قوله
ليتني ليتني توفيت ....
ومفصولا نحو: ليت وهل ينفع شيئا ليت، قال:
ومن حكم على شيء من هذه بالبدلية فليس بمصيب وإن حظي من الشرف بأوفر نصيب.
أما ابن ولاد فلم ير فرقا يذكر بين البدلية و التوكيد لأن من البدل ما هو توكيد لأن فيه تكريرا.
قلت صحيح أن البدل والتوكيد يتقاربان في مواضع كقولهم: مطرنا السهل والجبل، أو سهلنا وجبلنا، فقد أجيز في السهل والجبل أن يكونا بدلين من (نا) وأن يكونا توكيدا أي مطرت أرضنا كلها ولكني أرى أن البدلية في الآية الكريمة (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) أرى أنها أقوى من جهة أنها أدخل في بلاغة الآية من مجرد التكرير اللفظي الذي لا يفيد غير التوكيد.
وما أورده أبو علي من اعتراض على البدلية من أن المبدل من غير تام لعدم وجود خبر لأن الأولى غير صحيح فخبر الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه فكأن المعنى
أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما حاصل لكم أمر عجيب أيعدكم أنكم مخرجون فحذف خبر الأولى لإبهامه وتعظيم شأنه وإثارة توقعه، ثم ذكر مع الثانية تفسيرا وبيانا وتسكينا للهفة النفس وتشوقها لمعرفة هذا الأمر العجيب.
وهذا النوع من البدل لا يستغني عن ذكر المبدل منه، كما لا يستغني بدل البعض عن ذكر المبدل منه في نحو: رأيت متاعك بعضه فوق بعض، فالبدل هنا موضح للهيئة التي كان المبدل منه عليها، فكما لا تستغني الحال عن ذكر صاحبها كذلك هنا لا يستغني البدل عن ذكر المبدل منه.
وما ذكرته من حذف الخبر أولى من تخريج بعضهم أن (إذا) خبر لاسم (أن) الأولى على تقدير حذف المضاف، والتقدير أيعدكم أن إخراجكم إذا متم وكنتم ترابا .. أئكم مخرجون، أو: أن حالكم إذا متم .. أنكم مخرجون، ليكون الظرف صالحا للخبرية.
وما ذهب إليه الأخفش ورجحه أبو علي وما أجازه ابن مالك ضعيف لأن التقدير عندهم:
أيعدكم أنكم بعد موتكم إخراجكم، على أن الإخراج فاعل للظرف أو مبتدأ مؤخر، لأن الظرف عندئذ تعلقه بخبر (أن) أقوى من تعلقه بخبر للمصدر المؤول، فإذا قلنا: علمت أنك غدا أنك مسافر، وجعلنا الغد خبرا مقدما للمصدر المؤول بعده، ثم جعلناه في موضعه لصارت العبارة: علمت أنك أنك مسافر غدا، فيكون تعلق الغد بخبر (أن) الثانية أقوى من كونه خبرا للمبتدأ الذي هو (أنك مسافر) على تقدير: أنك سفرك غدا، فهذا تأويل بعيد والوجه عندي ما ذهب إليه سيبويه من أن (أن) الثانية مع اسمها وخبرها بدل من (أن) الأولى مع اسمها وخبرها المحذوف، والأولى ألا يكون الخبر المحذوف مطابقا لخبر (أن) الثانية المذكور حتى يكون الأمر منسجما مع ترجمة الباب الذي جاء فيه أن الأول وهو المبدل منه ليس بالآخر وهو البدل، فيكون التقدير أيعدكم أنكم حاصل لكم أمر عجيب إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أيعدكم أنكم مخرجون.
والله أعلم.
مع التحية الطيبة
¥