فإنّ التي لبيان الجنس لا تدخل بعد (ما) إلا على نكرة، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ} وقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ} وقوه تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}، فلو كانت (مِن) في قول سيبويه لبيان الجنس لم تدخل على الكلام معرّفًا، بل كانت تدخل عليه منكّرًا، وإذا لم تدخل عليه إلاّ معرّفًا فهي للتبعيض.
قلت: (من) في كلام سيبويه لبيان الجنس، وليست للتبعيض، والشواهد على دخولها على المعرفة بعد (ما) كثيرة، منها قوله تعالى: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا) (الأنعام126) وقوله تعالى: (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) (الزخرف12)، وقال عنترة:
أُسائِلُهُ عَن عَبلَةٍ فَأَجابَني=غُرابٌ بِهِ ما بي مِنَ الهَيَمانِ
وقالت ليلي العفيفة:
قَد كانَ بي ما كَفى مِن حُزنِ غَرسانِ=وَالآنَ قَد زادَ في هَمّي وَأَحزاني
وقال العرجي أو ابن أبي ربيعة:
فَما زالَ بي ما ضَمَّنتِني مِنَ الجَوى=وَسُقمٍ بِهِ أَعيا عَلى مَن تَطَبَّبا
وقال أيضا:
لَو أَنَّ ما بِيَ مِن حُبِّكُم عُدِلَت=بِهِ جِبالُ السَراةِ ما اِعتَدَلا
وقال جميل بثينة:
إِذا قُلتُ ما بي يا بُثَينَةُ قاتِلي=مِنَ الحُبِّ قالَت ثابِتٌ وَيَزيدُ
وقال ذو الرمة:
أَصاحٍ الَّذي لَو كَانَ مَا بي مِنَ الهَوى=بِهِ لَم أَدَعهُ لا يُعزَّى وَينُظَرُ
وقال قيس:
وَقُلتُ لِقَلبي حينَ لَجَّ بِيَ الهَوى=وَكَلَّفَني ما لا يُطيقُ مِنَ الحُبِّ
وغير ذلك كثير فلاا أدري كيف وقع هذا للشيخ رحمه الله.
وإذا بطل كون (من) تبعيضية تعين أن يكون مراد سيبويه: فعمل فيه الكلام الذي قبله.
وأما قياس (ما قبله) في قول سيبويه على قول النحاة عن ياء التثنية: مفتوح ما قبلها، فلا يصح لأن حديث النحاة عن الحروف وحركاتها، وهنا الحديث عن الكلام والكلمات، وسيأتي بيان وقوع الشيخ في التناقض في هذه المسألة.
وأما تشبيه سيبويه عمل الكلام في المستثنى بعمل العشرين في الدرهم فليس مقصورا على باب الاستثناء، فقد شبه سيبويه عمل الكلام التام في الحال بعمل العشرين في الدرهم، وذلك في نحو: هذا زيد منطلقا، قال: لأن المبتدأ يعمل فيما بعده كعمل الفعل فيما بعده، ويكون فيه معنى التنبيه والتعريف، ويحول [الخبر] بين الخبر [أي الحال] والاسم المبتدأ، كما يحول الفاعل بين الفعل والخبر [أي الحال] فيصير الخبر حالا ... وانتصب بالذي فيه كانتصاب الدرهم بالعشرين.
وقد بين سيبويه في باب الحال أيضا أن الفاعل حال بين الفعل والحال فلم يرتفع الحال على الفاعلية في نحو: ذهب زيد راكبا، وكذلك المفعول به حال بين الفعل المتعدي والحال في نحو: ضربت عبد الله راكبا، فلم ينتصب (راكبا) انتصاب المفعول به وشبه تمام الفعل بفاعله أو بفاعله مع مفعوله بتمام الاسم بالإضافة في نحو: لي مثله رجلا، حيث حال الضمير بين المضاف والتمييز فلم يجر بالإضافة، وشبه كل ذلك بتمام العشرين بالنون، فلم يجر ما بعده بالإضافة وإنما نصبه، وذلك قوله في الكتاب (1/ 44) عن الحال في: ضربت عبد الله قائما، وذهب زيد راكبا:
فالاسم الأول المفعول في (ضربت) قد حال بيه وبين الفعل أن يكون فيه بمنزلته، كما حال الفاعل بينه وبين الفعل في (ذهب) أن يكون فاعلا، وكما حالت الأسماء المجرورة بين ما بعده وبين الجار في قولك: لي مثله رجلا، ولي ملؤه عسلا، وكذلك: ويحه فارسا، وكما منعت النون في عشرين أن يكون ما بعده مجرورا.
أما الجزء الثاني من كلام ابن مالك فسأناقشه في حلقة أخرى إن شاء الله.
مع التيحة الطيبة.
ـ[علي المعشي]ــــــــ[03 - 02 - 2008, 02:28 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله
حتى لا أخرج الموضوع عن مساره لا أود الخوض في خلاف النحاة وآرائهم في تحديد ناصب المستثنى بعد إلا، لكني سأحصر كلامي في مناقشة كلام ابن مالك رحمه الله، وهل كلام سيبويه رحمه يعني أن الناصب هو (إلا)؟ وهذا ما أحسبه مراد شيخنا الأغر من طرح الموضوع.
وقد ذكر شيخنا الأغر أنه سيناقش تتمة كلام ابن مالك لكني أستأذنه لأعرض ما لدي من بضاعة مزجاة ريثما يعود، وما قولي بمغن عن قوله، بل ليس بمستغن عنه ليقيم معوجه حفظه الله ورعاه.
تتمة حجج ابن مالك رحمة الله عليه:
عن سيبويه رحمه الله:
¥