ويدلّ على ذلك قوله:" وإن شئت قلت: ما لي إلا أبوك صديقا، كأنّك قلت: لي أبوك صديقا، كما قلت: من لي إلا أبوك صديقا "، جعل (أبوك) هي المبتدأ. وعندئذ من وجهة نظر سيبويه أنّ (مَنْ) ههنا لا يصح أن تكون مبتدأ. وهذا التوجيه في إعراب سيبويه قد ألفناه في مواضع غير قليلة، فهو لا يعنى بتحديد الموقع الإعرابي قدر عنايته بالعلاقات الدلالية فهو يصف الموقع وصفا، يقول مثلا: " هذا باب ما ينتصب لأنّه قبيح أن يوصف بما بعده "، ومثاله: فيها قائما رجلٌ، ولم يقل إنّ (قائما) حال كما ذهب إليه النحويون، وقال: " هذا باب ما ينتصب لأنّه قبيح أن يكون صفة، وذلك قولك: هذا راقود خلا ". ولم يسمّه تمييزا. وفي ضوء هذا التوجيه الإعرابي لسيبويه تكون (من) في مثال الاستثناء (من لي إلا أبوك صديقا) مما لا يصح أن يكون مبتدأ.
وقد نجد لها تخريجا في ضوء آراء النحويين، ربما تكون ههنا بمنزلة ما النافية، فقد جعلها سيبويه في الفقرة الرابعة من كلامنا بمنزلة (ما لي إلا أبوك صديقا)، فهي بمعناها،،وقد أشار إلى ذلك ابن هشام الأنصاري في مغني اللبيب، واستوفته كتب البلاغة في المعاني المجازية، فلا محلّ لها من الإعراب.
وقد أعربها السيرافي: من: مبتدأ، ولي خبره، وأبوك: بدل من (مَنْ)، وفيه نظر؛ لأنّ سيبويه نصّ على أنّ (مَنْ) لم تفرده لأن يعمل عمل المبتدأ،، ثم إنّ المثال: من لي إلا أبوك صديقا، أصله قبل تقديم المستثنى كما وضّحنا في البدء: من لي صديقٌ إلا أبوك، فالأب بدل من صديق، وليس من (مَنْ).
وقد وجدت جميع الأفاضل المشتركين بهذه المسألة قد نقلوا رأي السيرافي، وذهبو ا مذهبه في تفسير معنى التخلي، وأعربوا إعرابه، والرأي محترم، والله أعلم.
مع تقديري واحترامي، وفوق كلّ علم عليم.
(انظر مؤلفنا: كتاب سيبويه تصنيف منهجي وتحقيق علمي، 3/ 282 - 284)
أ. د. محمد كاظم البكّاء
[email protected] )
جزاكم الله تعالى خيرا
ـ[د. بهاء الدين عبد الرحمن]ــــــــ[06 - 03 - 2008, 02:59 ص]ـ
أشكر الأخ علي على تعليقه القيم وأشكر الأخ مروان وشيخه على هذه المشاركة التي سأعود لمناقشتها بعد الانتهاء من مناقشة ابن مالك رحمه الله ..
قال رحمه الله:
وأظهر من هذا قوله في خامس أبوب الاستثناء: حدثنا يونس أن بعض العرب الموثوق بعربيته يقول: ما مررت بأحد إلا زيدا وما أتاني أحد إلا زيدا، وعلى هذا: ما رأيت أحدا إلا زيدا، فينصب زيدا على غير رأيت، وذلك أنك لم تجعل الآخر بدلا من الأول ولكنك جعلته منقطعا مما عمل في الأول، والدليل على ذلك أنه يجيء على معنى: ولكن زيدا، ولا أعني زيدا، وعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم إذا قلت عشرون درهما.
قال ابن مالك:
فصرح بأن نصب زيد في المثال المذكور على لغة من لا يبدل إنما هو بغير رأيت، فتعين نصبه بـ (إلا)، ولم يكتف بذلك التصريح حتى قال: ولكنك جعلته منقطعا عمل عمل في الأول، فهذان تصريحان لا يتطرق إليهما احتمال غير ما قلنا إلا بمكابرة وعناد.
قلت: صحيح أن سيبويه نفى أن يكون زيد منصوبا على الإبدال من أحد، وبذلك لا يراه منصوبا برأيت، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون العامل في زيد هو الكلام التام المؤلف من الفعل والفاعل والمفعول (ما رأيت أحدا) فيكون منصوبا بالكلام التام كله لا بـ (إلا).
ثم يقال لابن مالك رحمه الله: أنت خبير بأن سيبويه إذا أراد أن ينص على عمل أداة من الأدوات لم يلجأ إلى الإبهام فلماذا يلجأ سيبويه إلى كل هذا الإبهام لبيان أن (إلا) هي التي تعمل النصب؟؟
الذي أراه أن سيبويه يجعل الكلام التام عاملا في المستثنى كما يراه عاملا في الحال وتمييز النسبة ويشبه الكلام التام المؤلف من الفعل والفاعل أو من المبتدأ والخبر بالاسم التام الذي ينصب ما بعده على التمييز وأوضح مثال له (عشرون درهما).
ثم قال ابن مالك:
وقال (أي سيبويه) في تاسع أبواب الاستثناء بعد أن مثل بأتاني القوم إلا أباك: وانتصب الأب إذ لم يكن داخلا فيما دخل فيه ما قبله ولم يكن صفة وكان العامل فيه ما قبله من الكلام، كما أن الدرهم ليس بصفة للعشرين ولا محمول على ما حملت عليه وعمل فيها.
قال ابن مالك: فقد جعل علة نصب الأب عدم دخوله فيما دخل فيه ما قبله، والذي دخل فيه ما قبله إسناد المعنى إلى المعنى وتأثر اللفظ باللفظ فلزم من ذلك ألا يكون لفظ الأب منصوبا بلفظ أتى كما لم يكن لمعناه حظ في معناه، وإذا لم يكن النصب ب (أتى) تعين أن يكون ب (إلا).
قلت: سبق أن فسر ابن مالك بأن المراد ب (ما قبله) هو (إلا) وقول سيبويه هنا (وانتصب الأب إذا لم يكن داخلا فيما دخل فيه ما قبله) رد على ابن مالك في ذلك التفسير فسيبويه يريد بما قبله هنا (القوم) في قوله (أتاني القوم إلا أباك).
أما قوله: (إذا لم يكن النصب ب (أتى) تعين أن يكون بـ (إلا) فليس بصحيح لأن المقصود كما ذكرت أن النصب لمجموع الفعل والفاعل أي بالكلام التام أما (إلا) فقد أفادت الاستثناء وليس لها عمل.
ثم قال ابن مالك:
فحاصل كلام سيبويه أن (إلا) هي الناصبة لما استثنى بها إذا لم يكن بدلا ولا مشغولا عنها بما هو أقوى، ومن نسب إليه خلاف هذا فقد تقول أو غلط فيما تأول، تغمدنا الله وإياهم برحمته وأوزعنا شكر نعمته.
قلت: رحمك الله يا أبا محمد فإنك لو وازنت بين تشبيه نصب الحال بنصب الدرهم وبين تشبيه نصب المستثنى بنصبه لعلمت أن سيبويه يريد أن العامل في الحال وفي المستثنى هو الكلام التام أي الفعل الذي تم بفاعله أو المبتدأ الذي تم بخبره، وهو الناصب لتمييز الجملة أيضا نحو: طاب زيد نفسا، فهذه ثلاثة نظائر، وقد نقل ابن مالك أن مذهب ابن خروف في ناصب المستثنى أنه الكلام المستقل قبل (إلا).
وإلى اللقاء في مناقشة مشكل آخر ..
¥