تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

(فهذه الحروف كلها مبتدأة مبني عليها ما بعدها، والمعنى فيهن أنك ابتدأت شيئا ثبت عندك، ولست في حال حديثك تعمل في إثباتها وتزجيتها، وفيها ذلك المعنى، كما أن حسبك فيها معنى النهي، وكما أن (رحمة الله عليه) بمعنى (رحمه الله) فهذا المعنى فيها، ولم تجعل بمنزلة الحروف التي إذا ذكرتها كنت في حال ذكرك إياها تعمل في إثباتها وتزجيتها، كما أنهم لم يجعلوا سقيا ورعيا بمنزلة هذه الحروف، فإنما تجريها كما أجرت العرب، وتضعها في المواضع التي وُضِعْنَ فيها، ولا تُدخلَنَّ فيها ما لم يدخلوا من الحروف.) (1/ 330)

يريد سيبويه _ والله أعلم _ أن المرفوع وإن كان بمعنى المنصوب ولكن يختلفان في ان المرفوع إخبار عن شيء ثابت في نفسك دائم غير مرتبط بزمن، فإذا قلت: سلام عليك، كان المعنى: سلام ثابت عليك مطلقا غير مرتبط بزمن التكلم أو غيره من الأزمان، أما المنصوب في نحو: حمدا وشكرا، وسلاما، وغير ذلك، فإن المتكلم به _وهو يضمر في نفسه فعلا ينصبه_ يعمل في إثباته في زمن التكلم ويزجيه تزجيه، فكأنه عندما يقول: شكرا لك، يثبت الشكر ويدفعه إليك بلين، فهو في حال التكلم يزجي لك هذا المعنى إزجاء، أي: أشكرك شكرا، فهو يثبت الشكر ويدفعه للمشكور دفعا لينا، بدليل أنه قال في موضع آخر: (وإذا قال: سمعا وطاعةً، فهو في تزجية السمع والطاعة، كما قال: حمدا وشكرا على هذا التفسير) (1/ 349).

فالمنصوب يمثل جملة فعلية، والمرفوع يمثل جملة اسمية، ومعلوم أن الفعلية مضمونها مرتبط بزمن الفعل والاسمية تدل على الثبات والديمومة.

ونصَّ سيبويه في كلامه السابق أيضا أن هذه الحروف منصوبة كانت أو مرفوعة سماعية لا يجوز إدخال المنصوب على المرفوع أو المرفوع على المنصوب، وإنما يقتصر فيها على ما استعملته العرب بحسب مواضعها.

خلاصة القول أن سيبيويه يبين في نصه السابق أمرين: الأول أن المرفوع الواقع مبتدأ وإن كان بمعنى المنصوب فبينهما فرق دقيق، هو أن المرفوع يدل على أمر ثابت، أما المنصوب فيدل على أن المتكلم يثبت الأمر في حال التكلم ويزجيه إزجاء، ويدفعه إلى المخاطَب برفق ولين.

والثاني أن للمرفوع مواضع وصيغ وللمنصوب مواضع وصيغ كلها سماعية، ولا يجوز القياس عليها ولا إدخال بعضها على بعض.

لله درك يا أبا بشر ورحمك الله رحمة واسعة ...

أرجو أن يكون فيما قدمت ما كنت تبتغيه _أخي الكريم_ فلا تنسني من صالح دعائك.

مع التحية والتقدير.

أخي الكريم زيد حفظه الله

للفائدة ومزيد من البيان أضيف ما يأتي:

قول سيبويه رحمه الله (فهذه الحروف كلها مبتدأة مبني عليها ما بعدها، والمعنى فيهن أنك ابتدأت شيئا ثبت عندك، ولست في حال حديثك تعمل في إثباتها وتزجيتها، وفيها ذلك المعنى) من الأقوال التي لا يستطاع في معانيها مثلُها، وهو مثل قوله عن تقسيم الفعل بحسب دلالته على الزمان: (وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، وما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع)، وقد علّق عبد القاهر الجرجاني على هذا الكلام فقال:

(لا نعلم أحدا أتى في معنى هذا الكلام بما يوازيه أو يدانيه، أو يقع قريبا منه، ولا يقع في الوهم أيضا أنه يُستطاع، أفلا ترى أنه إنما جاء في معناه قولهم: (والفعل ينقسم بأقسام الزمان: ماض وحاضر ومستقبل) وليس يخفى ضعف هذا في جنبه وقصوره.) (دلائل الإعجاز605)

فقول سيبويه السابق الذي ابتدات به لا يتصور أن يؤتى بمثله في بيان الفرق بين دلالة المصادر التي تأتي مبتدأة مبنيا عليها ما بعده والمصادر المنصوبة بأفعال مضمرة مع اتفاقهما في المعنى العام، فقولنا: الحمد لله، فيه معنى: حمدا لله، ولكن (الحمد لله) يعبر به المتكلم عن أمر ثابت في نفسه دفعة واحدة، من غير ان يكون فيه دلالة على حدوث الحمد من المتكلم على سبيل التجدد آنا بعد آن، أما قولنا (حمدا لله) فيعني أن المتكلم به يثبت الحمد في أثناء تكلمه وهو متلبس بفعل الحمد، لأنه بتقدير أحمد الله، أي أن المتكلم يزاول الحمد في زمن التكلم ويزجّيه تزجية.

وقد تحدث عبد القاهر عن هذا المعنى فقال:

(إن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئا بعد شيء، وأما الفعل فموضوعه أنه يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئا بعد شيء، فإذا قلت: زيد منطلق، فقد أثبت الانطلاق فعلا له من غير أن تجعله يتجدد ويحدث منه شيئا فشيئا .... وأما الفعل فإنه يقصد فيه إلى ذاك، فإذا قلت: زيد ها هو ذا ينطلق، فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءا فجزءا، وجعلته يزاوله ويزجّيه) (دلائل الإعجاز174)

وازن بين الكلامين تر البون شاسعا، فقد استطاع سيبويه ان يجمل كل هذا التفصيل بعبارة موجزة قوية ذات دلالة عميقة يكاد يعجز عنها من يحاول الإتيان بمثلها.

ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

تذييل

مما ذكره سيبويه من المنصوب بفعل لازم الإضمار الحال النائب عن المصدر، وهو حال مؤكد لعامله المحذوف وجوبا، وجعله سيبويه من باب المنصوب الذي يدل على أن قائله في حال ذكره يعمل في تثبيته وتزجيته، وذلك في نحو: أقائما وقد قعد الناس، و: عائذا بالله من شرها، قال سيبويه:

(وإذا ذكرت شيئا من هذا الباب فالفعل متصل في حال ذكرك وأنت تعمل في تثبيته لك أو لغيرك في حال ذكرك إياه، كما كنت في باب حمدا وسقيا وما أشبهه إذا ذكرت شيئا منه في حال تزجية وإثبات ... ) 1/ 341

لأنه في معنى: أتقوم قائما، وأعوذ بالله عائذا، فالجملة فعلية دالة على أن المتكلم أو المخاطب الذي يقوم بالفعل المذكور في حال إثبات للفعل وتزجية له. أما إذا قال: عائذ بالله، فلا دلالة فيه على التزجية، فهو تقرير بأنه عائذ بالله أي: هذا شأنه على سبيل الثبات والدوام، فهو ليس في حال هذا القول في حالة تلبس بفعل العياذ وتزجيته، أما إذا قال: عياذا بالله، أو عائذا بالله، فيدل أنه في حال تزجية لهذا الفعل.

وقليل من الباحثين من يهتم بمتفرقات كتاب سيبويه الدائرة حول المعنى الواحد. وقد مدح ابن مالك أحد العلماء أظنه الشلوبين أو ابن خروف بأنه خير من كان مطلعا على متفرقات الكتاب.

رحمك الله يا أبا بشر رحمة واسعة وجزاك عما قدمته لهذه اللغة خير الجزاء.

مع التحية الطيبة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير