ثانيًا: قوله تعالى: ? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ? (1).
لو قرئت "إنما يخشى اللهُ من عباده العلماءَ" أي برفع لفظ الجلالة ونصب العلماءَ لفسد المعنى تمامًا وأدى إلى خلل في العقيدة إذ كيف يخشى الله القوي العزيز الجبار عباده الضعاف الأذلاء؟ فالضبط الصحيح: نصب لفظ الجلالة بالفتح على أنه مفعول به مقدم، ورفع العلماء بالضم على أنه فاعل مؤخر ويكون المعنى الصحيح أن أشد العباد خشيةً لله تعالى هم العلماء العاملون حقاً (2).
وإليك مثال يوضح أهمية الضبط الإعرابي في الحديث الشريف. ففي مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه، حديث (ذكاة الجنين ذكاة أمه) يروى هذا الحديث بالرفع والنصب، فمن رفع (ذكاة) الثانية جعله خبر المبتدأ الذي هو (ذكاة الجنين) فيكون ذكاة الأم هي ذكاة للجنين، فلا يحتاج إلى ذبح مستأنف ومن نصب كان تقدير الكلام: ذكاة الجنين كذكاة أمه، أي له تذكية تخصه لوحده (3).
وروي أيضاً أن الرشيد كتب ليلة إلى أبي يوسف: أفتنا حاطك الله في قول القائل:
فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن ** وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم
فأنت طلاق والطلاق عزيمة ** ثلاثاً، ومن يخرق أعق وأظلم
فإن ثلاثاً في البيت تنشد بالرفع والنصب فكم تطلق على الحالين، فانطلق أبو يوسف إلى الكسائي يستغيثه فقال: أما من أنشد البيت بالرفع فقد طلقها واحدة وأنبأها أن الطلاق لا يكون إلا بثلاث، وأما من أنشده بالنصب فقد طلقها وأبانها لأنه قال لها أنتي طالق ثلاثاً (4).
وأحضر إلى عبد الملك بن مروان رجل يرى رأي الخوارج وهو (عتبان الحروري) وقد عمل قصيدة وهي أبيات عديدة فقال له ألست القائل يا عدو الله:
فإن يك منكم كان مروان وابنه ** وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
فمنا حصين والبطين و قعنب ** ومنا أمير المؤمنين شبيب
فقال: لم أقل كذا يا أمير المؤمنين، وإنما قلت: *ومنا أميرَ المؤمنين شبيب*
فاستحسن قوله وأمر بتخلية سبيله.
ـــــــــــــــــ
(1) سورة فاطر آية (28).
(2) انظر البحر المحيط بالتفسير لأبي حيان الأندلسي 9/ 31.
(3) انظر عقود الزبرجد في إعراب الحديث النبوي للسيوطي 1/ 256.
(4) انظر مجالس العلماء 952، مغني اللبيب لابن هشام 76، خزانة الأدب 3/ 459.
وهذا الجواب أنجاه من قبضة عبد الملك بن مروان، فإنه إذا كان (أمير) مرفوعاً كان مبتدأ فيكون شبيب أمير المؤمنين، وإذا كان منصوباً فقد حذف منه حرف النداء ومعناه يا أمير المؤمنين منا شبيب، فلا يكون شبيب أمير المؤمنين بل يكون منهم (1).
إذن ومن خلال ما مضى يتبين لنا أنه لا يمكن الاستغناء عن الإعراب، فهو الذي يجعل القارئ قادراً على التمييز بين المعاني التي يقصدها المتكلم. وإن ما قعده النحاة كان عملاً منظماً وهادفاً إلى عصمة اللسان من الخطأ.