وقد ذكر أبو البقاء العكبري، في شرح ديوانه، أنَّ ابن جنِّي قال: وقد عاب على أبي الطيِّب مَن لا مخبرة له بكلام العرب، جمع بوق، والقياس يعضده، إذ له نظائر كثيرة، مثل: حَمَّام وحَمَّامات، وسُرادق وسُرادقات، وجواب وجوابات، وهو كثير في كلام العرب، في جمع ما لا يعقل من المذكَّر، إذ لا يوجد له مثال القلَّة) انتهى
ويؤيِّد قول ابن جنِّي، ما جاء في " المصباح المنير ":
(البوق بالضم معروف، والجمع: بوقات) انتهى
قلتُ: قول ابن جنِّي – رحمه الله – وجيه جدًّا، وهو الذي لا يسع الناس إلاَّ العمل به، ولهذه الكلمة نظائر شائعة الاستعمال، مثل: قَرارات، مَقالات، نِقاشات، نِزاعات) والله أعلم.
" رأيت القمرين، ملحقة بالمثنى على حد قول السائل، فهل من توجيه لذلك؟ "
جاء في " توضيح المقاصد "، أنَّ للتثنية ثمانية شروط، منها:
(أن يكون قابلاً لمعنى التثنية، فلا تُثنَّى الأسماء الواقعة على ما ثاني له في الوجود، كشمس وقمر، إذا قُصدت الحقيقة.
اتفاق اللفظ، أما نحو " القمرين " في الشمس والقمر، فمن باب التغليب) انتهى
ثم قال: (وما أُعرِب إعراب المثنَّى، وهو مخالف لمعناه)، ومنه:
(أو صلح للتجريد، وعُطف مباينة عليه، لا عطف مثله، نحو: " القمرين " في الشمس والقمر) انتهى
قلتُ: إن كان المقصود بلفظ " القمرين " الشمس والقمر، فهو مُلحق بالمثنَّى، وكذا إن قُصد بالقمرين، القمر ومَن يَتشبَّه به، نحو قول المتنبِّي، " من الكامل ":
واسْتَقْبَلتْ قَمَرَ السَّماءِ بِوَجْهِها * فَأَرَتْنِيَ الْقَمَرَينِ في وَقْتٍ مَعا
" القمرين ": مفعول به ثانٍ منصوب، وعلامة نصبه الياء، لأنه مثنَّى تغليبًا.
وإن لم يكن كذلك، فهو مثنَّى، كمَن يريد أن يشبِّه اثنين بالقمر، في نحو قول الشاعر:
عبدُ الإلَهِ وصنوهُ قمرُ الْعُلا * فرعان من أصلٍ زكا ونجارِ
ناهيك من قمرين في أفق الْعُلا * ينميهما نور من الأنوارِ
" هل هناك كلمات لا تجمع، وما الضابط لمعرفة هذه الكلمات؟ "
سؤال معانيه مفيدة، لكن مجامعه بعيدة، أسأل الله العون والتيسير، ولعلِّي أكتفي بذكر بعضها.
نعم، هناك كلمات لا تجمع، بل يستوي فيها الواحد والجمع.
ومنها، كلمات ذات أوزان معلومة، نحو ما جاء على وزن " فَعيل "، " فَعول "، وما كان على وزن اسم الفاعل أو المصدر، ونحو ذلك.
قال تعالى: {والملائكةُ بعدَ ذلكَ ظَهيرٌ}
كلمة " بعيد "، وما أنت عنا ببعيد، وما أنتم منا ببعيد، يستوي فيه الواحد والجمع.
وقال – عزَّ في عُلاه -: {فَأتِيا فِرْعَونَ فقُولا إنَّا رَسولُ ربِّ العالَمينَ} الشعراء 16، وقال في طه 47: {فَأتِياهُ فقُولا إنَّا رَسولا ربِّكَ}
وقال – تبارك وتعالى -: {مُسْتَكبِرينَ بهِ سامِرًا تَهجُرُونَ} المؤمنون
وقال الشاعر:
وأصبح عني بالغميصاء جالسًا * فريقان مسؤولٌ وآخرُ يسألُ
" أصبح " هي الناقصة، واسمها " فريقان "، و" جالسًا " خبرها.
و" ضيف " يقع للاثنين والجميع على لفظ الواحد، لأنه في الأصل مصدر.
قال تعالى: {هلْ أتاكَ حَديثُ ضَيفِ إبراهيمَ الْمُكرمينَ} الذاريات
وقال الشاعر:
لا تَعدمي الدهرَ شِفار الجازِر * لِلضيفِ والضيفُ أحقُّ زائرِ
ويجوز فيه التثنية والجمع، والأوّل أكثر كقولك: رجالُ صَوْمٍ وفِطر وزَوْرٍ.
فالمصدر يقع على الواحد والاثنين والجميع، كقولهم: رجل عدل، ورجلان عدل، وقوم عدل، وما أشبه ذلك.
وتقول: هذا رجل حسبك من رجل، وهو مدح للنكرة، لأنَّ فيه تأويل فعل، كأنه قال: محسب لك، أي كاف لك من غيره، يستوي فيه الواحد والجمع والتثنية لأنه مصدر.
وقولهم: ما في الدار أحد، هو اسم لمن يعقل يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث، قال الله تعالى: {لَسْتُنَّ كأحدٍ من النِّساءِ}، وقال: {فما منكُم مِن أحدٍ عنه حاجزين}
وتقول: فلان مفزع للناس، يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث.
" هَلمَّ يا رجل "، بفتح الميم بمعنى " تعال "، يستوي فيه الواحد والجمع المؤنث في لغة أهل الحجاز، قال الله تعالى: {والقائلينَ لإخوانِهم هلمَّ إلينا}.
وفي " أسرار العربية ":
(وأما ما لفظ الجمع مثل لفظ الواحد في الحروف والحركات، فنحو: الفلك، فإنه يكون واحدا ويكون جمعا، فأما كونه واحدا، فنحو قوله تعالى: {في الفلك المشحون}، فأراد به الواحد، ولو أراد به الجمع لقال: المشحونة.
وأما كونه جمعا، فنحو قوله تعالى: {حتَّى إذا كُنتم في الفلك وجَرَين}، فأراد به الجمع لقوله: " وجَرَين ") انتهى
" جُنُب "، يطلق على الذكر والأنثى، والمفرد والتثنية والجمع
وفي " الهمع ":
(ونحو جنب أيضا، فإن الأفصح فيهما ألا يثنيا ولا يجمعا، فليسا بجمعين، وإن ثُنِّي فهو جمع عند الأكثرين، كفلك وهِجان ودِلاص، فإنها تطلق على المفرد والجمع.
والله أعلم
دمتَ بكلِّ الودِّ والتقدير
مع عاطر التحايا للجميع
¥