والثاني: أنَّ {أهْونُ} ليست للتفضيل، بل هي صفة بمعنى: هَيِّن، كقولهم: الله أكبر، أي: الكبير، والظاهر عَود الضمير في {عليه} على البارئ تعالى، ليوافق الضمير في قوله {ولهُ المَثَلُ}) انتهى
قلتُ: وذهب ابنُ مالكٍ – رحمه الله -، في " شرح التسهيل "، إلى أنَّ التفضيل مؤول، في الآية الكريمة، وقال:
(وقد يُستَعمل العاري الذي ليس معه " مِنْ " مجرَّدًا عن التفضيل، مؤولاً باسم فاعل، كقوله تعالى: {هُوَ أعْلَمُ بِكُم إذْ أنشَأكُم مِنَ الأرضِ} النجم 32، ومؤولاً بصفة مشبَّهة، كقوله تعالى: {وهُوَ الَّذي يَبدَؤُا الخَلقَ ثمَّ يُعيدُهُ وهُو أهْوَنُ عَليهِ} الروم 27.
فـ" أعلَم " هنا بمعنى" عالم، إذ لا مشارك لله تعالى في علمه بذلك، و" أهون " بمعنى: هَيِّن، إذ لا تفاوت في نسب المقدورات إلى قدرته تبارك وتعالى) انتهى
وجاء في " شرح الأشموني ":
(يرد أفعل التفضيل عاريًا عن معنى التفضيل، نحو قوله تعالى: {ربُّكم أعلمُ بكُم} الإسراء: 54، وقوله تعالى: {وهوَ أهونُ عليهِ} الروم: 27)
ثم قال:
(وقاسه المبرِّد، وقال في التسهيل: " والأصحُّ قصره على السماع ".
وحكى ابن الأنباري عن أبي عبيدة القول بورود أفعل التفضيل مؤولاً بما لا تفضيل فيه.
قال: ولم يسلم له النحويون هذا الاختيار، وقالوا لا يخلو أفعل التفضيل من التفضيل، وتأولوا ما استدلَّ به) انتهى
قلتُ: أما صرف " أفعل " عن ظاهره، في قولنا " الله أكبر " ففيه نظر، إذ أنَّ لفظ " أكبر " باقٍ على بابه.
جاء في " اللسان ":
(فأما قولهم: " أكبر "، فإنَّ بعضَهم يجعله بمعنى " كبير ".
وحمله سيبويه على الحذف، أي: أكبر من كل شيء، كما تقول: " أنت أفضل "، تريد: من غيرك) انتهى
وكذا قوله تعالى: {هو أعلمُ بكم}
قال العلامة بدر الدين العيني، في " عمدة القاري ":
((حدّثنا أبَيُّ بنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبيِّ، قال قامَ مُوسَى النَّبيُّ خَطِيبا في بَنِي إسْرائيلَ فَسُئِلَ: أيُّ النَّاسِ أعلَمُ؟ فقالَ أنا أعلَمُ، فَعتَبَ اللَّهُ عليهِ، إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ)) الحديث
قوله: " أعلم "، خبره، والتقدير: أعلم منهم، كما في قولك: " الله أكبر "، أي من كل شيء) انتهى
وقال عن " أفعل التفضيل ":
(ولا يُستعمل إلاَّ بأحد الأَوجه الثلاثة، وهي: الإضافة، واللام، ومِنْ.
فلا يجوز أن يقال: " زيدٌ أفضلُ ".
قلتُ: إذا عُلِم يجوز استعماله مجردًا، نحو: " الله أكبر "، أي: أكبر من كل شيء، ومنه قوله تعالى: {أتَسْتَبدلونَ الذي هو أدنَى بالذي هو خَيرٌ} البقرة 61، وسواء في ذلك كون " أفعل " خبرًا، كما في الآية، أو غير خبر، كما في قوله تعالى: {فإنَّه يَعلمُ السِّرَّ وأخفَى} طه 7} انتهى
وقال السيوطي، في " الأشباه والنظائر ":
(قال الله عزَّ وجلَّ: {هُم أحْسَنُ أثاثًا ورِئيًا} مريم 74، يريد: منهم.
وإن شئتَ حذفتَ المعمول فيه، وجئتَ بالفصل، فتقول: " زيدٌ أفضلُ من عَمرٍو "، ولا يجوز أن تحذفهما جميعًا، إلاَّ أن يكون ذلك مشهورًا في الخلق، كقولهم: " الله أكبر "، لأنه قد عُلم أنَّ الأمر كذلك، فكأنه قد نطق بالفصل، أو يكون شائعًا في أمته، نحو قول الفرزدق، " من الكامل ":
إنَّ الذي سَمكَ السَّماءَ بَنَى لنا * بيتًا دَعائِمُه أعزُّ وأطْولُ
وأما قول مَن يقول: إنَّ هذا قد يكون بمعنى فاعل أو غيره، فليس عندنا بشيء، لأنه لا نجد عليه دليلاً) انتهى
قلتُ: وهو اختيار ابن عثيمين – رحمه الله -، في شرحه على الألفية، لقوله تعالى: {وهوَ أهونُ عليهِ}، قال:
(الصحيح أنه على بابه، {وهو أهونُ عليه}، والكل عليه هَيِّن، لكنه أراد أن يخاطب هؤلاء بأمر ظاهر عقلا، وهو أنَّ الإعادة أهون من الابتداء، فكيف تُنكرون ما هو أهون في عقولكم ومحسوسكم؟، وإلاَّ فالكل عليه هَيِّن، لأنَّ الكل يكون بكلمة " كُن "، فالكل هَيِّن، لكنه يخاطب قوما يُنكرون البعث.
مثل قوله: {وإنَّا أو إياكم لعلى هدًى أو في ضلالٍ مُبينٍ}، ومعلوم أنَّ هؤلاء المكذبين في ضلال، وأنَّ الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم - ومَن مَعه على هدى.
كذلكم قوله تعالى: {ربُّكم أعلمُ بكُم}، الصحيح أنه على بابه، وأنه أعلمُ بنا من أنفسِنا، وليس المعنى عالم بكم فقط، بل هو أعلم بكم، وكذلك أيضا:
وإنْ مُدَّتِ الأيْدِي إلَى الزَّادِ لمْ أَكُنْ * بِأعْجَلِهِمْ إذْ أجْشَعُ القَومِ أعْجَلُ
" لم أكن بأعجلهم "، الصحيح أنه على بابه أيضا، بمعنى: أعجل القوم، وليس المعنى: بعَجَلهم.
لست بأعجلهم، أي: لست بأول من يمدُّ يدَه، لأنَّ أول من يقدِّم يده إلى الزاد، هو أعجلهم، وهذا دليل على شرفه ونعمته، وأنه يتمالك نفسه حتى يقال له: تفضل.
كذلك قولهم:
إنَّ الَّذي سَمكَ السَّماءَ بَنَى لَنا * بَيتًا دَعائِمُهُ أعزُّ وأطْوَلُ
أعز وأطول، معلوم أن الشاعر لم يقصد أعز وأطول من كل شيء، بل أعز وأطول من البيوت الأخرى، فالمراد به: التفضيل، والله ألأعلم) انتهى
وكذلك أبقاه صاحب " التحرير " على بابه، ولم يؤوله، وقال:
(فقوله: {أهْوَنُ} اسم تفضيل، وموقعه موقع الكلام الموجَّه، فظاهره أن {أهْوَنُ} مستعمل في معنى المفاضلة على طريقة إرخاء العنان والتسليم الجدلي، أي الخلق الثاني أسهل من الخلق الأول، وهذا في معنى قوله تعالى {أفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَديدٍ} ق.
ومراده: أنَّ إعادة الخلق مرة ثانية مُساوية لبدْء الخلق في تعلق القدرة الإلهية، فتحمل صيغة التفضيل على معنى قوة الفعل المصوغة له، كقوله: {قالَ رَبِّ السِّجْنُ أحَبُّ إلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَني إِلَيْهِ} يوسف: 33، وللإشارة إلى أن قوله {وهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} مجرد تقريب لأفهامهم) انتهى
قلتُ: إذا أمكن توجيه اللفظ على ظاهره، فهو الأولَى والأرجح، ما لم تكن هناك قرينة متصلة أو منفصلة تصرفه إلى التأويل.
والله أعلم
مع عاطر التحايا
¥