أما القسم الثاني: الأخفتُ صوتاً والأبعدُ عن النفوذ فكان القسم الذي أوجعته الهزيمة الروحية. فركز جهوده على بعث الروح والإحساس بالقيمة الذاتية. انعزل عن الخصم الغالب وخاصمه، وعكف على تراث السلف الصالح يحاول العثور على منابع القوة فيه)) ([16]).
الانشقاق الثقافي وانكسار الروح والجسد ولد فئتين متصارعتين فئة منكفئة على ذاتها، وفئة مرتمية في أحضان الآخر، وكانت هذه الفئة هي الريح الهوجاء التي عصفت بالأمة وذلك من خلال المشروع الذي رسمه محمد علي باشا وذلك بإرسال البعثات العلمية إلى فرنسا عام 1826 م، وكان الشيخ حسن العطار وتلميذه رفاعة الطهطاوي من ضمن أفراد هذه البعثة، ونلحظ الانبهار بحضارة الغرب وثقافته في كتابي الطهطاوي " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " و " مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية " ([17])، وتم بناء المعاهد ومصانع السلاح على النمط الغربي ([18]).
فحصل الفصام الثقافي والانبهار بمنجزات الغرب في حداثته وتحديثه. وكان المبتعثون العرب كما عبّر المفكر مالك بن نبي يعيشون إمّا في " مزابل الغرب " وإمّا في " مقابره " ([19])، وهكذا عاشت الثقافة العربية بين فكرتين " ميتة " و " مميتة " ([20]).
عاد المثقفون العرب يقدمون لنا الثقافة الغربية نموذجاً مثالياً يجب أن يحتذى، كما رأينا عند رفاعة الطهطاوي وأحمد لطفي السيد، وسلامة موسى، وطه حسين، ومحمود عزمي، وعلي عبد الرازق، ومنصور فهمي، وشبلي شميل، وفرح أنطون، وإلياس أبي شبكة. وقد ارتبط " التغريب " لدى هؤلاء المفكرين بالعداء لكل انتماء عربي وإسلامي وشرقي تاريخي أو ديني أو أدبي، والولاء للقومية المصرية أو الفرعونية أو ثقافة الأبيض المتوسط، وكان العداء للفصحى، ومعركة القديم والجديد، وفصل الدين عن الدولة بعض أقنعة التغريب المتعددة ([21]).
فالتقدم عند هؤلاء على اختلاف مجالات طروحاتهم مرهون باستنساخ الثقافة الغربية والتماهي معها، وكانت النتيجة من هذه التبعية المقيتة والمثاقفة الذليلة اتساع الهوة الفاصلة بيننا وبين الغرب بدلاً من تجسير الفجوات وبناء القناطر.
وممّا عزّز هذا الانسلاخ وهذه المثاقفة غير المتكافئة كون القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين مهادَ ركودٍ حضاري وهزائم عسكرية مما أشعل فتيل الإحساس بالدونية والغبن الحضاري، وانطفاء الإحساس بالكرامة وقيم الانتماء، فضعفت المباديء في النفوس، وتحطمت الإرادة.
هذا الفراغ الحضاري في العالم الإسلامي الذي تقابله كتلة حضارية هائلة في الغرب أحدث خللاً في التوازن الاستراتيجي بين الثقافتين العربية الإسلامية والثقافة الغربية المسيحية، فعمدت الحضارة الغربية إلى تصدير ثقافتها عبر ترسانة إعلاميّة هائلة تضخ قيماً ثقافية تكرّس الاستعلاء والغَلَبة وتمارس إرهاباً فكرياً، وغسيلاً عقلياً منظماً يزلزل القيم، ويتلاعب بالعقول ابتداءً من دعايات الكوكاكولا، وانتهاءً بأفلام سلفستر ستالون، وبطولات الهكرز، ودراسات المستقبل ([22]).
هذا الركود الحضاري وتلك الهزائم المتتالية كانا مناخاً مناسباً لنشوء أورام سرطانية ثارت على نظام الجسد الاجتماعي وبدأت تفتك بخلاياه ونسيجه الداخلي، فاستحالت الثقافة العربية إلى ساحة حرب أهليّة، وسجال مغالط، عطل قدراتها، وأفقدها القدرة على الاستبصار، وجرّها إلى صناعة ثنائيات متضادّة كالأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، والرجعيّة والتقدميّة، والعقلانية والعرفانية، والذكورة والأنوثة وما إلى ذلك ([23]).
وتحوّل المجتمع الثقافي إلى طوائف متنافية ينكر بعضها بعضاً. واشتغل المثقفون بالتجريح والاتهامات وتصيّد العثرات، والتنابز بتهم العمالة والزندقة، والتخلف والخنوع حتى أصبحت الثقافة العربيّة ثقافة شتائمية قوامها التنافي، وليس التنامي والتكامل ([24]).
¥