فالبنية الثقافية بنية ممتدّة في أعماق الزّمان، تضيف إليها الأمم إضافات متباينة في كمها وكيفها، ولهذا لم تدّعِ أمةٌ من الأمم أنها مكتفيةٌ ذاتياً بما لديها، وأنها طفرة عبقريّة مفاجئة، لم تقل ذلك الحضارة اليونانية والرّومانية، ولا الحضارة العربيّة الإسلاميّة، ولا الحضارة الغربيّة ([7]).
من هنا كانت المثاقفة ضرورة وجود، وإمكانية تواؤم. والمثاقفة الراشدة هي التي تقوم على أسس متينة وتوظف ((جملة من النماذج المعرفية والمناهج الحكميّة والموازين الدقيقة للفصل بين المطلق والنسبي والمشترك والخاص، والمؤقت والدائم من ذلك التراث وبذلك استوعب المطلق والمشترك الإنساني والدائم المستمر، وتجاوز النسبي والخاص والمؤقت)) ([8]).
وحين نتأمل حركة التاريخ نجد أن الحضارة العربيّة الإسلاميّة بوعي من دستورها الإلهي قدرت الثقافات الأخرى. فلم تقف معزولة عنها، وإنما تثاقفت معها فتأثرت بها وأثرَّت فيها.
وتكاد تجمع المصادر العربيّة على أن خالد بن يزيد بن معاوية 85 هـ كان أول من بدأ حركة الترجمة إلى العربيّة للعلوم الهرمسيّة ([9]).
ثم تعزّزت حركة الترجمة على يدي المأمون الذي شجع حركة الترجمة وأغدق عليها، إمّا لأنه كان مُحبّاً للفلسفة اليونانية، وإما لاستراتيجيّة سياسيّة يقاوم بها المأمون الغنوصَ المانوي والعرفان الشيعي المصدر المعرفي الذي تنفرد به الحركات المعارضة للعباسيين ([10]).
غاية الأمر أن شيوع الفكر الهرمسي والاشتغال بالفلسفة اليونانية أحدثا هزّة للعقل العربي تمثلت في الولع بالنظر التجريدي والتأملات العقلية والقياس المنطقي وإهمال المنهج التجريبي الذي التقطه الغرب فبدأ به ثورته العلمية الحديثة ([11]) واتجاه كثير من المفكرين إلى الجدل العقائدي أولاً عند بني أميّة في " الجبر " والاختيار ثم إلى الجدل الفلسفي، وبلغ هذا الجدل في القرن الثالث الهجري على أيدي المعتزلة مرحلة النضج حيث اتسم منهجهم ((بظاهرة الإمعان في استقصاء الفكرة الواحدة، وتقليبها من جميع وجوهها والتغلغل فيها إلى أقصى إمكانياتها، وشق أبعاد جديدة لها، واكتشاف ما يمكن أن تنطوي عليه من عناصر عقلية ومواد فكرية تساعدهم على صياغة وجهة نظرهم في الله والكون والحياة والمصير …)) ([12]).
ومع هذا جمع العرب بين الفلسفة والعلم، والتأمل والتجربة، وأضافوا للعلم إضافات مهمة قائمة على الاستقراء والملاحظة ونقد المنطق الصوري الأرسطي، الذي يغلب عليه التجريد ومجافاة المحسوسات، كما نجد ذلك في كشوفات الجغرافيين وعلماء الطب والطبيعة، وما نقف عليه في مباحث ابن خلدون في علم التاريخ وعلم العمران ([13]).
لقد أثرت هذه المثاقفة على الفكر العربي تأثيراً واضحاً لكنّ الغلبة كانت للثقافة العربيّة لأنها ثقافة غالبة وليست مغلوبة.
وفي أشدّ حالات الشقاق السياسي والدويلات المتناحرة في القرن الرابع الهجري، ونجاح الحملات الصليبية على الشام، ونجاح المغول في تدمير بغداد والشام بعد ذلك لم ينبهر العرب بالغزاة، لأن حضارة المغزو أعظم من حضارة الغازي، فكانت الهزيمة للجسد وليست للروح ([14]) وللجغرافيا وليست للتاريخ، وكانت الثقافة العربيّة تعيش ازدهاراً لا مثيل له، واستطاعت تجاوز المحنة، وكان كثيرٌ من عباقرة الثقافة العربيّة نتاجاً لتلك الحقبة وما تلاها أمثال المتنبي والمعري والفارابي وابن سينا وابن حزم وابن طفيل وابن رشد وعبد القاهر وابن جني وابن خلدون وغيرهم ([15]).
لقد وُجدت آثار الثقافات الأخرى في تراثنا الفكري، ولكنها آثارٌ ذائبة في النسيج الثقافي، فهي أشبه ما تكون بالجداول الرقراقة التي تصب في نهر عظيم.
ـ[المستعار]ــــــــ[28 - 07 - 2002, 02:18 م]ـ
أما الذي حصل مع بداية القرن التاسع عشر الميلادي عقب دخول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798 م فقد كان مختلفاً حيث حدث شرخ ثقافي هائل في الثقافة العربية وانقسم الناس إلى قسمين ((القسم الأول الذي أوجعته الهزيمة الجسدية فركز جهوده على تقوية الجسد العسكري الاقتصادي كيف؟ بالتوحد بالخصم الغالب، يأخذ سلاحه منه، بتقليده والأخذ عنه، بتحديث مجتمعنا على شاكلته ... بدأ الأخذ المنبهر بالتكنلوجيا (ق 19) وانتهى بمفاهيم العلم
(ق 20).
¥