ـ[المستعار]ــــــــ[28 - 07 - 2002, 02:20 م]ـ
وهي التي تكشف لنا منهج السلوكية، والتحليل النفسي لدراسة النفس الإنسانية، فالحقيقة كل ما هو مادي يمكن إدراكه بإحدى الحواس، ولأن العقل لا يمكن إدراكه بإحدى الحواس قامت السلوكية بدراسة السلوك متخذة من نظرية الفعل المنعكس الشرطي سنداً لها. وذهبت مدرسة التحليل النفسي إلى أن الشعور لا أثر له في سلوك الإنسان، فاللاشعور هو الذي يحدد سلوكيات الإنسان، ويحكم حركته في الحياة. فالشخصية مثل كتلة الجليد العائمة لا يعلو منها إلا أقلها أما معظمها فهو مغمور بالماء ([37]).
وجاءت فيزياء القرن العشرين لتنقض هذه المسلمات التي قامت في ظلالها تلك المناهج فتحطمت فيزياء نيوتن على يدي إنشتاين ونظريته في النسبية التي أثبتت أن علاقات المكان والزمان وقوانين الحركة لا تُعرف إلا بالمواقف الشخصية للمراقب، وليس بالحياد كما أقر نيوتن. وبناءً على هذا اكتشف الغربيون أن الميكانزم الآلي لا يطاق في فرع من فروع المعرفة مكرّس لخدمة البشر يُنظر من خلاله إلى الإنسان على أنه حيوان أو آلة صماء، فهو قوّة واعية يجرّب ويقرّر ويتصرّف ([38]).
وجاءت الشكلانية والبنيويّة كنتيجة من نتائج العلم التجريبي الذي لا يرى للذات دوراً في معرفة العالم، لأنه لا يمكن إخضاعها لمبادئ القياس التجريبي فكان محتوى اللغة هو اللغة؛ لأن اللغة يمكن إخضاعها وقياسها بالمعايير التجريبية ([39]). وهذا يفسر لنا الاهتمام بالنص الأدبي عند هؤلاء.
وحين ثار الفكر الغربي على التجربة وآمن بقدرة العقل على إدراك المعرفة الكاملة جاءت التفكيكية ارتداداً إلى الذات وإيماناً بقيمة العقل في إدراك المعرفة، وهكذا ينشأ منهج نقدي في ظل التجريبية، ليقوم على أنقاضه منهج آخر في ظلال " المثاليّة ".
إن البحث عن العقد والحصارات في النص الأدبي لا يمكن فصلها عن " غريزة الجنس " التي جعلها فرويد أم الغرائز، وجعل كل نشاط إبداعي تسامياً بهذه العقدة المكبوتة، حتى الله تعالى يفسره تفسيراً جنسياً، تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
هذا التصور البهيمي لنشاط الإنسان وإبداعه لا يمكن قبوله، فلا يمكن اختصار جهاد الإنسان وكدحه في غريزة حيوانية إلاّ إذا عُدنا إلى المهاد الفلسفي الأول لهذا الفكر وآمنا به وهو نظرية النشوء والارتقاء عند داروين.
ولا يمكن أن تتحول كلمات اللغة إلى رموز جنسيّة أو أسطورية إلا من خلال تغييب العقل، واحتقار الإنسان، والجهل بماهيته وغايته في هذه الحياة.
لقد أصبحت أعين الشعراء الجاهليين عند أصحاب المنهج الأسطوري شاخصة إلى السماء ((فإذا ركبوا نياقهم فإنما هم يركبون ناقة السماء الخالدة، وإذا صوّروا الصراع بين الصياد الرامي، أو الصياد الكلاّب وبعض حيوان الصحراء فإنما هم يتحدثون عن هذه المجموعات من كواكب السماء ونجومها، وإذا صوروا ظبية أو مهاة أو نخلة فإنما هم يصورون الإلهة القديمة الشمس، وإذا ذكروا ثوراً وحشياً فإنما هو ثور السماء المعبود لدى شعوب كثيرة)) ([40]).
ولا يمكن فهم مقولة البنية الفوقية والبنية التحتية عند جاكبسون بمعزل عن المقولة ذاتها عند ماركس، فالدين والسياسة والثقافة (البنية الفوقية) لا يمكن دراستها بمعزل عن (البنية التحتية) القوى الاقتصادية والاجتماعية ([41]).
وليس موت المؤلف، واللعب الحُرّ بالدوال، وانتفاء القصدية، وغياب المركز الثابت، وتعدد القراءات سوى ثمرة من ثمار الشك في اليقينيات حتى أصبح النص - كما يصوره بارت - كصفحة السماء، ناعمة منبسطة وعميقة من دون حواف أو علامات، والقارئ كالعرّاف الذي يرسم عليها بطرف عصاه مربعاً وهميّاً يستطيع أن يستقريء منه حسب قواعد معينة، حركة طيران الطيور ([42]).
ولهذا ليس للنص معنى، ولا وجود لقراءة خاطئة، فكل قراءة إساءة لقراءة سابقة.
¥