* المثاقفة غير المتكافئة سلخت من أذهان المثقفين العرب " حقيقة الثقافة " حيث إن الثقافة في العربية تعني مجموعة من الدلالات المهمّة.
1 - مضمون مفهوم الثقافة نابعٌ من الذات الإنسانية، لا يُغرس فيها من الخارج فكلمة ثقافة تعني تهذيب الفطرة البشرية وتقويم اعوجاجها وإطلاق طاقاتها.
2 - مفهوم الثقافة يعني التنقيب عن قيم الحق والخير والعدل، وهي قيم تهذب الوجود وتقوّم اعوجاجه، وكل قيمة تناهض هذه القيمة لا تتسق مع مقتضيات التهذيب.
3 - مفهوم الثقافة مرتبط بالفطنة والذكاء يقال: غلام لَقِنٌ ثقف أي ذو فطنة وذكاء. والمراد أنه ثابت المعرفة بما يحتاج إليه، فتكديس الأفكار الميتة أو المميتة كما يرى مالك بن نبي ليس وعياً، وإنما الوعي في إدراك ما تقتضي الحاجة إلى معرفته لصناعة الحياة، وإصلاح المجتمع.
4 - مفهوم الثقافة في أصله العربي مرتبط بالنقد الذاتي والمراجعة والتهذيب والإصلاح.
5 - مفهوم الثقافة لا يحمل أحكاماً قيمية تحدد نوعية الثقافة وحشية أو بربرية أو بدائية أو مستنيرة، فالتهذيب يجعل من الثقافات انطلاقاً من قيم المجتمعات التي تنتمي إليها، وظروفها التي تعيشها على درجة واحدة من القيمة الإنسانية ([51]).
6 - مفهوم الثقافة يعني التمكن والغلبة.
وهذه الدلالات لا نجدها في المفهوم الغربي للثقافة الذي يعني زراعة الأرض، ((الكل المركب الذي يشمل المعارف والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع)) ([52]).
فليس هناك بحث عن قيم الحق الخير والعدل، وليس هنا دلالة على إصلاح اجتماعي، أو نقد ومراجعة، ولهذا انطلاقاً من هذا المفهوم يمكن فهم ممارسات الغرب تجاه أبناء المجتمعات الأخرى، وتفسير ثقافة الرجل الأبيض التي يسعى لزرعها في عقول الناس بالقوة، وليست مفاهيم " الانتشار الثقافي " و " اللحاق بالركب " و " تضييق الفجوة " و " الثورات الثقافية " و " الدور التحضيري لأوروبا " ([53])، ونهاية التاريخ و " صدام الحضارات " إلاّ نتاجاً لمفهوم الثقافة في سياقها الغربي.
وفرضت المثاقفة النقدية غير الراشدة مفاهيم شديدة الخطورة على تراثنا وذوقنا الجمالي، ونظريتنا الأدبية، فالنص مثلاً في التراث العربي يعني الرفع والإسناد يقال: نصَّ الحديث ينصُّه نصاً رفعه، وكُلّ ما أظهِر فقد نُصّ، وقال عمرو بن دينار: ما رأيت رجلاً أنصَّ للحديث من الزُّهري: أي أرفع له وأسند ([54]).
وفي تاج العروس: ((النصّ بمعنى الرفع والظهور. قلت: ومنه أخذ نص القرآن والحديث وهو: اللفظ الدال على معنى لا يحتمل غيره .. )) ([55]) ((فأين هذا من المدلول اليوناني حيث تحمل الكلمة معنى " النسيج " و " التداخل " وهو المعنى الذي مهد لظهور نظرية النصوصية، أو اشتباك النصوص ببعضها بشكل نسيجي)) ([56]).
وجرتنا هذه المثاقفة إلى القول بأن الشاعر صانع أشكال، لا صانع أفكار، وأصبح هوس البحث عن الأشكال الجديدة سمة للإبداع والتفرد ابتداءً بقصيدة التفعيلة، ومروراً بالقصيدة الكلية، وانتهاءً بالقصيدة التوقيعة وقصيدة النثر، والشعر في العربية يعني العلم والفطنة، وإنما سمي الشاعر شاعراً لأنه يشعر بمالا يشعر به غيره.
وبدلاً من أن يكون النقد " تقويماً وتأويلاً " أصبح بحوثاً في التاريخ وأحوال النفس الإنسانية، وعلاقات المجتمع، وقراءات إسقاطية للأساطير والخرافات وترميزاً للواضح الجليّ، وتلاعباً بالدوال، ورسوماً هندسية، وإحصاءات حسابية، وقراءات شارحة ومتيالغة بحجة أن النقد فلسفة وليس لعبة يتوسط فيها الناقد بين النص والمتلقي.
المثاقفة الراشدة نقدية أو غير نقدية تحتاج أولاً إلى أسس متينة تقوم عليها، تتمثل في الإيمان اليقيني بخصوصية الثقافة العربية الإسلامية، وأنها نتاج مرجعية مميزة، فالتفريط في هذه الخصوصية، أو التهاون في ثوابت هذه المرجعية الخالدة خيانة لله وللأمة.
لكن هذا الإيمان اليقيني لا يتحقق بالوعود وكتابة الاستراتيجيات على الورق وإنما يتحقق ببناء المؤسسات الثقافية وتشييد مراكز البحث وبناء العقول الواعية، والمراجعة الدؤوبة والنقد الذاتي والتثقيف المتواصل للمناهج والمعرفة.
لقد عجزت المؤسسات الثقافية في الوطن العربي عن إيجاد " الكتلة الحرجة " من العقول الحية التي تؤمن بأن الثقافة والمثاقفة غربلة دائمة، وتهذيب متجدد، فنشأت أجيال من " المثقفين الموظفين " تتخذ مسارين متعاكسين " هروب من الثقافة العربية " و " هروب إلى الثقافة العربية " وكلا المسارين نتاج صناعة ثقافة رديئة.
المثاقفة الراشدة إيمان بأن الحكمة ضالة المؤمن، ولكن الحكمة إبرة في كومة من القش تحتاج إلى صبر ومهارة في آن واحد. وهذا هو المنهج الذي نبحث عنه منذ أن كتب شكيب أرسلان قبل مائة عام لماذا تقدم الغرب، وتخلف المسلمون، وها نحن نعيد السؤال مرة أخرى بعد قرن من الزمان، فأين المنهج، وكيف يتحقق؟ هذا هو السؤال.
ولو أني جُعلت أميرَ جيشٍ لما قاتلتُ إلاّ بالسؤالِ
فإنّ الناس ينهزمون عنه وقد ثبتوا لأطراف العوالي ([57])
¥