وفي ضوء هذا التفسير المادي لحقيقة الكون لم تفهم طائفة علماء الفسيولوجيا الحياة إلا أنها ((نتيجة عرضية لسلسلة عمليات مادية لا حياة فيها، ولم تر العقل إلا أنه نشاط متولد عن الدماغ)) ([68]) وظهر اليهودي الانجليزي تشارلز دارون بكتابه " أصل الأنواع " الذي ذهب فيه إلى أن الحياة تطورت شيئاً فشيئاً، من الكائنات العضوية إلى الإنسان، لقد كانت نطفاً هلامية في زبد البحر، فظهرت " الأميبا " في المياه الدافئة، قبل ستمائة مليون سنة، وخرجت إلى اليابسة حيث تناسلت في هيئة زواحف ضخمة، ثم في هيئة طيور ولبائن أنجبت قرد مدغشقر، الذي ظهرت عنه سلالتان هما الإنسان، وقرود تشبه الإنسان)) ([69]).
وبحسب قانون " الانتخاب وبقاء الأصلح " عاشت الأنواع التي استطاعت التكيف مع الطبيعة، بفضل ما وهبتها الطبيعة من صفات نوعية ساعدتها على البقاء ([70]). وكان ذلك كله يتم بدون منطق منظم ([71]).
((ولم يزد علم الأحياء الحديث عن إيراد التفاصيل ووضع النقط على الحروف في ذلك الاكتشاف)) ([72]).
وذهبت الفلسفة العقلية في عصر التنوير إلى الثورة على الكنيسة، ونقض مسلماتها من خلال الاعتماد على العقل، وإعلاء مكانته فجاء ديكارت بفلسفة الكوجيتو أنا أشك فأنا أفكر، وأنا أفكر: فأنا موجود ([73]). أي الاستدلال على وجود النفس بالفكر ([74]).
جاء ديكارت وقد أثبت علم الآليات أن حركة المادة تخضع لقانون معلوم، لكن هذا لم يعجب الفلاسفة، ولم ينكروه في آن واحد، فسعوا إلى التوفيق بين الرؤيتين، فذهبوا إلى أن العقل والجسم يقعان في خطين متوازيين، وإذا كان وقع لأحدهما حادث، ووقع لصاحبه حادث آخر فإن هذا لا يعني أن الحادث العقلي ناتج عن حادث جسمي، لأن هذا معناه تبادل التأثير بينهما، فمرد هذا التأثير هو العناية الإلهية تلك العناية التي تجعل اليد تمتد إلى الطعام عند الإحساس بالجوع وهذه النظرية المعروفة عند تلاميذ ديكارت بنظرية الموازاة ([75]).
وجاء العلم في القرن التاسع عشر فرفض هذه الفكرة التي ترد حركة الجسم والعقل إلى العناية الإلهية فهذه تعاليم الكنيسة التي لا يقوم العلم إلا على أنقاضها، فقال العلماء والفلاسفة إن العقل ((نوع مهذب راق من المادة، يمكن تصوره باعتباره هالة من الإشعاع تحيط بالدماغ، كتلك الهالة من الضياء تشع عن رؤوس القديسين، ووظيفة هذه الهالة هي أن تعكس الأحداث التي تقع في الدماغ)) ([76]).
ـ[المستعار]ــــــــ[28 - 07 - 2002, 02:22 م]ـ
وهذا المنهج العقلي الذي دعا إليه " ديكارت "، لتطبيقه على مناحي الفكر والحياة ما عدا الدين، ذهب إليه " روجر بيكون " صاحب المنهج التجريبي - ففصل بين ما هو بشري، وما هو إلهي، لكن هذا الخوف مما هو إلهي تلاشى على يد " سبينوزا " واضع أسس مدرسة النقد التاريخي الداعية إلى إخضاع الكتب المقدسة للبحث العقلي، وكأنها تراث بشري ([77]). وعزز هذا التوجه الجديد " جان لوك " القائل: ((من استبعد العقل ليفسح للوحي مجالاً فقد أطفأ نور عينيه كلتيهما وكان مثله كمثل من يقنع إنساناً بأن يفقأ عينيه، ويستعيض عنهما بنور خافت يتلقاه بواسطة المرقب من نجم سحيق)) ([78]).
لقد اتضح لنا أن العلوم الطبيعية تشكل وحدة واحدة جذرها الفيزياء والكيمياء وتتفرع منها علوم الحياة وعلم النفس. الفيزياء والكيمياء يبحثان المادة في صورتها الأولى البسيطة، وعلم الحياة وعلم النفس يتناولان المادة في صورتها المعقدة ([79]).
وهذه العلوم الطبيعية تقوم على عدد من الأسس هي:
1 - وحدة الكون أو وحدة العلوم. ولهذا يقولون: ((إن الوحدة الحقيقية للعالم تنحصر في ماديته)) ([80]).
2 - الميكانزم ويعني أن الكون آلة ضخمة، وأن سلوك الإنسان وظيفة من وظائف الميكانزم يمكن معرفته وتفسيره من الكائن ذاته.
3 - الإجرائية: وتعني صحة النظرية العلمية القائمة على الإجراء.
4 - الحتمية: فكل معلول ناتج عن علة ([81]).
مدارس علم النفس
وفي ظل هذا التصور الكوني للعالم والحياة نشأ التصور الخاص بالإنسان في علم النفس الغربي من خلال مدرستين اثنتين هما:
1 - السلوكية.
2 - التحليل النفسي.
1 - السلوكية:
¥