والذرة التي كان يُظن أن معرفتها لا يمكن الشك فيها أصبحت تلك المعرفة خادعة، لأنه ثبت حديثاً أنه ((إنما يستنتج وجودها من أحداث تقع خارجها، يظن أنها تُسببّها وتأتي عنها)) ([164]).
فالإدراك الحسي في الفيزياء الحديثة، لم يعد في الوجود العيني للمادة، وإنما في الحادث النفسي الداخلي، فحقيقة الأشياء عقلية وليست مادية، فالظاهرة المادية ليس إلاّ أثراً للكيفية التي تتجلى فيها الحقيقة الروحية ([165]). لقد كانت الفيزياء القديمة تقول بالتمّاس بين ماديين عندما أضغط بأصبعي على طرف المنضدة مثلاً، أما الفيزياء الحديثة فتقول: إن الدفع ناشيء عن ذرات الأصبع وذرات المنضدة. وذلك الدفع يولد تياراً عصبياً يصل إلى الدماغ ينتج عنه شعور باللمس، فليس هناك علم بشيء يقع خارج الجسم، لأنه قد يحصل تنبيه للجهاز العصبي دون وجود منضدة ([166]).
فيزياء القرن العشرين بكشوفاتها الجديدة لم تكمل ما قام به (نيوتن) بل حطمت بنيانه، حيث هدم إنشتاين بنظرية النسبية فكرتي الزمان والمكان المطلقين، وأثبت أن علاقات المكان والزمان وقوانين الحركة لا يمكن تعريفها إلا بالمواقف الشخصية للمراقب، وليس بالحياد كما ذهب إلى ذلك (نيوتن) ([167]).
وجاءت ثورة فيزياء الجسيمات على يد " إيرنست رذرفورد " حيث أثبت أن الذرة عبارة عن نواة متناهية الصغر يحيط بها كم هائل من الإلكترونات أصبحت تفسيرات نيوتن لها تبعث على الإحباط، فانهارت إمبراطورية نيوتن وتطورت ميكانيكا الكم على يدي " نيلزبور " و " فيرنرها يزنبي " ([168]).
وانبنى على هذا التغير الفيزيائي تغيرٌّ في مفهوم علم الأحياء للحياة في القرن العشرين، فقد كانت النظرية الآلية ترى أن الحياة نتيجة عرضية لعمليات مادية، وأن العقل نشاط متولد من الدماغ. واجتمع أخيراً أدلة تقول: إن أسلوب الكائن الحي ليس آلياً ولا يمكن تفسيره آلياً، فالحياة ظاهرة من صفتها التجدد والإبداع، واستحداث صور جديدة في الكائنات، ومنها ظهرت نظريات التطور المبدع، والتطور الناشيء، ونظرية الكائن الحي، والنظرية العضوية ([169]).
إن الماء يتكون من الأوكسجين والهيدروجين بنسبة معينة، لكن في الماء خصائص ليست هي خصائص كل من الأوكسجين والهيدروجين. وكذلك جسم الإنسان فهو دماغ ولحم وعظام وأعصاب، ولكل منها خاصية معينة لكن له من اجتماع هذه الأجزاء خصائص ليست موجودة في تلك الأجزاء ([170]).
وبناءً على هذا فلم يعد كل مادي حقيقياً، وأصبح المعنوي كالدين، وقيم الحق والخير والجمال مما صح ثبوته، وعدّ باباً من أبواب الحقيقة، وبهذا تقوّض الأساس العلمي لعلم النفس، فالإنسان لم يعد شبيهاً بالآلة لا دخل للعقل في سلوكياته، فله عقل، وله غاية يسعى إلى تحقيقها، ومطالب يهدف إلى بلوغها هي أسمى من مطالب الجنس والغذاء والكساء. فلم يعد التفسير الآلي أو الحيواني للسلوك الإنساني واعياً بأبعاد الإنسان، إن الإنسان يستجيب للمنبه، كما تستجيب الآلة، لكنه لا يعمل كما تعمل، فاستجابتها آلية أما استجابته فهي استجابة فعالة ونشيطة. فهو يدرك الموقف الخارجي، ولذلك فاستجابته لا تعتمد على قوة ذلك المنبه بقدر ما تعتمد على الدافع النزوعي الذي لديه، وهو مؤثر بالغ في الاستجابة، وهذه الاستجابة موجهة إلى غاية يمكن استمرارها بعد زوال المثير بخلاف الآلة.
والإنسان كل موحدٌ، أما الآلة فهي خليط مركب، ولهذا يمكن تبديد هذا الخليط وتعديله ويظل له نفس الخصائص، أما الإنسان فلا يمكن أن يُؤلف منه إنسانٌ آخر ([171]).
ـ[المستعار]ــــــــ[28 - 07 - 2002, 02:26 م]ـ
ب - عيوب فكرية:
والإنسان لم يكن حيوانياً في مطالبه، كما صوّره فرويد، وماركس، ولا يمكن تفسير سلوكه تفسيراً حيوانياً كما فعلت السلوكية، التي طبقت سلوكيات الحيوان على الإنسان، وفسرت سلوكه بذلك المقتضى استناداً على نظرية " الفعل المنعكس الشرطي " عند بافلوف، وهي نظرية ثبت فشلها، فقد ذهب كوهلر في تجاربه الشهيرة على القردة والموز إلى نسبة القدرة والاستبصار للقردة، وهي قدرة مكنتها من إدراك الموقف الذي وضعت فيه من حيث هو كل منظم ([172]).
¥