تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومما سبق يتضح أن علم النفس الغربي في مدرستي التحليل النفسي والسلوكية أنه علم يقوم على احتقار الإنسان، ومسخ مكانته، فهو كائن حيواني تسيّره غرائزه، كما تسيّر الحيوان غرائزه وشهواته، أو كما يحرك الآلة مفتاح التشغيل وفق قانون أوتوماتيكي مطرد.

وهذا التصور المبني على أسس فكرية خاصة، يمكن فهمه من خلال سياقه الذي نبت فيه ويمكن إيجاد مسوغات له في فكر جاهلي منحرف، رأى أن تعاليم الكنيسة تخدير للعقول وهيمنة " للأكليروس " على أفكار الناس وحرياتهم، فكل ما يمت إليها حقاً كان أو باطلاً لا تقوم الحياة به، ولا يتحقق الوجود الإنساني إلا على أنقاضه، فالإنسان سيد نفسه يعرف طريقه الذي يسلكه، ويملك قضاءه وقدره بيديه، ويدرك أن الحياة إنما هي أيام قليلة السعيد فيها من أشبع غرائزه، وعاش ساعته بكل ما فيها من لذة.

إن هذا المنهج نتاج موقف من العالم وإدراك له، وهو موقف وإدراك لا يصلح لأمة أعزها الله بالإسلام، الدين الذي أقام تصوراً سوياً وشاملاً للكون والإنسان والحياة، تجلى فيه الإنسان كائناً مكرماً على جميع المخلوقات قال تعالى: س ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ش ([173])، كرمه الله تعالى بالعقل، وأوجد لديه الغريزة، وحدد له الغاية، وأنار له السبيل، وهو قادر بعد هذا كله على أن يصعد إلى منزلة الملائكة حين يغلب عقله على نزواته، وهو قادر أيضاً على اللصوق بالأرض حين ترجح نوازعه على عقله.

إن الإسلام يؤمن بمطالب الإنسان الدنيوية، فهي مطالب لا تقوم الحياة إلا بها، ولكنها مطالب محكومة بالعقل، وبالغايات، التي تجعلها تتحقق وفق توازن نادر الوجود قال تعالى: س وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدينش ([174]) يقول محمد قطب: ((والإنسان يكره فقدان التوازن ولو كان إلى أعلى؛ لأنه يحرص على أهدافه العليا التي لا تتحقق بغير الاستجابة لنوازع الأرض، وكل ما يعمله ويهدف إليه هو تنظيف الوسائل التي يستجيب بها الفرد لنوازعه، حتى ترتفع الحياة كلها، وتصبح كريمة جميلة، خليقة بمعنى التكريم الذي أسبغه الله على الإنسان)) ([175]).

لقد نشأ الإنسان على الفطرة السوية، لا على الشبق الجنسي، فأدرك قيمة الكون والحياة، وفسره تفسيراً إيمانياً يعيده إلى بارئه سبحانه وتعالى، فلم يكن محض الصدفة ولم يكن ذرة ضائعة، أو آلة ضخمة محكومة بنظام آلي خاص إنه صنع الله الذي أتقن كل شيء ([176]).

وأدرك أن له في هذه الحياة غاية، هي عبادة الله فهو مستخلف في هذه الأرض، ووفق هذا التصور يكون نشاطه الحركي، وتكون استجاباته وانفعالاته ([177]).

وليس هناك نفس إنسانية كاملة، وخالصة من النقائص إلا نفسه صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا أسس الإسلام منهجاً متكاملاً لفهم النفس الإنسانية وتربيتها، فهي مجموعة من الخطوط المتقابلة، الخير والشر، والحب والكراهية، والسلب والإيجاب، قد يغلب جانب على جانب فيحدث انحراف في سلوكياتها، فكان منهج التربية الإسلامية خير منهج كشف عن طبيعة النفس، وحدد لها ما يجعلها نفساً سوية يتغلب فيها جانب الخير على نوازع الشر وأدرانه ([178]).

وعلى هذا فإن الفهم الصحيح لطبيعة النفس الإنسانية، وتقدير مناشطها في الحياة، إنما ينبغي أن يكون وفق هذا التصوير الرباني العظيم، فموجد النفس هو أعلم بطبيعتها، وهو الأقدر سبحانه على وضع المنهج الملائم لها قال تعالى: س ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ش ([179]).

وإن النقد النفسي حين يكون محتاجاً إلى فهم طبيعة النفس الإنسانية والقوى الدافعة لسلوكها، في تفسيره للعمل الأدبي إنما يجب أن يتمثل هذه النظرة، لأنها الأقدر، والأجود، ففيها يظل للإنسان مكانته، وللعقل قيمته، وللغايات أثرها البالغ في توجيه المناشط في هذه الحياة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير