فلما كان الغرض هو تخصيص نفسه بالدفاع وأنه يقول ما يدافع عن أحسابهم الا أنا فصل الضمير وأخره لتحمل عبارته هذا المعنى ولو أبقاه متصلاً وقال أتنم أدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي لأفاد جعل الضمير المؤخر توكيداً وليس فاعلاً والمؤخر المقصور عليه لا يكون توكيداً و لا معطوفاً ولا نعتاً وحينئذ يكون المؤخر المقصور عليه هو قوله عن أحسابهم ويفيد أنه لا يدافع عن أحساب قومه أحد إلا هو.
وقال تعالى " إنما العلم عند الله " ردا على قولهم لهود فائتنا بما تعدنا " أي لا علم عندي بالوقت الذي يكون تعذيبكم فيه حكمة وصواب إنما علم ذلك عند الله وقال تعالى " انم علمها عند ربي " رداً على سؤالهم عن وقت الساعة أي علمها عند ربي وليس عندي وقال تعالى " إنما يأتيكم به الله إن شاء " رداً على قوم نوح في قولهم " فأتنا بما تعدنا " أي يأتيكم به الله وليس أنا الذي سأتيكم به. والأمثلة الثلاثة أفادت الإثبات والنفي معاً ولو جاءت بدون إنما ما أفادت ذلك.
وقال تعالى " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله " فقد قصر شكواه على كونها لله وليست لأحد غيره والمقصور عليه في الآية هو الجار والمجرور وليس الضمير كما في البيتين السابقين لأن الضمير في " الآية " غير منفصل فانفصاله يجعله هو المقصور عليه
3 - النفي بها غير مصرح به لذا يصح أن تأتي معها " لا " العاطفة التي من شرطها ألا ينتفي بها شيء قد نفى قبلها. ولا يقع في جملة " إنما " " من "الزائدة ولا لفظة " أحد " لأنهما لا يقعان إلا في حيز النفي و " إنما " لا ينص فيها على النفي ولذا صح أن تقول في طريق النفي والاستثناء، ما من مسيء إلا ولقد لقي عقابه وما من أحد إلا وهو يقول ذلك ولا يصح استعمال " إنما " في المثالين.
استعمالات " إنما "
1 - تستعمل " إنما " فيما هو معروف " معلوم " لا إنكار فيه ولا غرابة تقول إنما هو صاحبك. ومثل إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية بخلاف استعمال النفي والاستثناء فيستعمل في عكس ذلك ومن أمثلتها قوله تعالى " إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء "
2 - وقال تعالى " إنما أنت منذر من يخشاها " وقوله " من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها " وقال المتنبي لكافور الإخشيدي
إنما أنت والد والأب القا (مـ)
### طع أحنى من واصل الأبناء
لم يرد إخباره بكونه والداً وإنما يذكره بذلك لأنه لا ينكر كونه بمنزلة الوالد وكقوله أيضاً
إنما تنجح المقالة في المر (مـ)
### ء إذا صادفت هوى في الفؤاد
فقصر نجاح المقالة على مصادفة الهوى لدى المرء أمر معلوم لا ينكر
ولذا جاء بإنما وكقول المتلمس
عصاني فلم يلق الرشاد وإنما
### يتبين عن أمر الغوي عواقبه
لما كان من المعلوم أن عاقبة الغوي الذي لا يستجيب للنصح إنما يظهر له ذلك عند ملاقاة عواقب ما صنعه استعمل إنما ومثل قول الشاعر
وما الزين في ثوب تراه و إنما
### يزين الفتى مخبوره حين يخبر
وكقولهم إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، إن صال صال بجنانه وان حال حال ببيانه " وهذا من قصر القلب
3 - وتستعمل " إنما " فيما هو مجهول لتنزيله منزلة المعلوم.
4 - كقول المتنبي في كافور
فما لك تختار القسي وإنما
### عن السعد يرسي دونك الثقلان
يقول لا ينبغي الاهتمام بجمع القسي إعداد العدة لأن الثقلين يقاتلان عنك وهذا معنى غريب وموضع شك لذا كان الأولى به أسلوب النفي والاستثناء لكنه أراد أن يصبغه بصبغة الأمر المسلم به. وتنزيله منزلة المعلوم فاستعمل " إنما " التي لا تستعمل الا فيما هو معلوم وقال تعالى عن المنافقين " إنما نحن مصلحون "
حيث جعلوا إصلاحهم كأنه أمر مسلم به مع أنهم لا صلاح لهم، وهذا لما كان منكراً كان الأولى به طريقة النفي والاستثناء لكنهم جعلوه كالمسلم به. وقال ابن قيس الرقيات
إنما مصعب شهاب من الله (مـ)
### تجلت عن وجهه الظلماء
حيث ادعى أن كونه بهذه الصفة أمر معلوم لا جدال فيه وقال الشاعر
ألا أيها الناهي فزاره بعد ما
### أجدت لغزو إنما أنت حالم
حيث استعمل إنما فيما هو محل إنكار ليلبسها لباس الأمر المعلوم.
رابعا:- تقديم ما حقه التأخير
¥