وهذه الصّور الجمالية في الكون العظيم تردّدت في عدّة آيات، منها قوله تعالي: {الذي خَلَقَ سَبعَ سَمواتٍ طِباقَاً مَا تَرَى في خَلقِ الرَّحْمَنِ من تَفاوُت فارجِع البَصَرَ هَل تَرَى مِنْ فُطُور* ثم ارجِعِ البَصرَ كرَّتين يَنقلِبُ إليكَ البَصُرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِير* ولقد زيّنا السماء الدُّنيا بمَصابيحَ وجَعلنَاها رُجُومَاً للشياطين} (الملك3ـ5).
فتناسقُ الخَلقِ، والتنائي عن العَيب، مظهرٌ أصيلٌ للجمال، وتزيين السماء بالنجوم يجعل الجمال هدفاً في الخلق، أشارت إليه الآيات من سورة ق، وأوضحته الآيات من سورة المُلك، كما ذكرته أيضاً هذه الآية: {إنّا زينّا السماء الدنيا بزينة الكواكب* وحفظاً من كل شيطان مارد} (الصافات:6،7).
ومن جمال الحياة الثياب؛ يلبسها الإنسان فتستره وتُجمّله، يقول تعالى: {يا بَنِي آدم قد أنزلنا عليكم لِبَاسَاً يُوارِي سُوءاتِكُم ورِيشَاً ولباسُ التَقوَى ذَلك خيرٌ} (الأعراف:26).
وهكذا تختم هذه الآية بما يؤكِّد النّظرَة الإسلامية للجَمال، وهي أنّ الجمال المعنوي والنفسي الماثل في الاستمساك بمنهج الدين أولى بالاعتبار، وأجدر بالحرص عليه والأخذ به.
ومع أنّ المنهج الإسلامي يؤثر الجمال المعنوي، وجمال الحياة الباقية، لكنّه يرعى حاجات الإنسان ومطالبه الغالبة في الدُّنيا، بل يغريه بقضائها إغراءاً مُلحّاً في إطار الطيِّب والحلال الذي يزيد الجميل جمالاً؛ فيقول: {يا بني آدم خُذُوا زِينَتكِم عند كُلِّ مَسجدٍ وكُلُوا واشرَبُوا ولا تُسرفُوا إنّه لا يُحبُّ المُسرفين. قُل مَن حرّم زينةَ اللهِ التي أخرجَ لعبادِهِ والطَيِّبَاتِ مِن الرِزق قُل هِي للذين آمنُوا في الحياةِ الدُّنيا خَالِصَةً يومَ القيامة ... } (الأعراف:31،32). إنّ البيان القرآني يعرض الجمال عنصراً أساسياً في بناء الكون، ودعامة من دعامات الدين الحقّ وشريعته السمحة.
والنفس الإنسانية الكاملة بإيمانها الصحيح ترى الجمال صفة جوهرية فيها، تنطلق منها إلى آفاق السموّ والكمال البشري.
...
تابع
الجزء الثاني في الأسفل
ـ[أنوار الأمل]ــــــــ[08 - 08 - 2003, 12:16 ص]ـ
الجمال المعنوي
وهذا يدفعنا إلى تدبّر ما قاله القرآن الكريم في مجال الجمال المعنوي، لقد جاء الجمال المعنوي في القرآن الكريم مقروناً بأنماط شتّى من السلوك البشري، وقد نعجب لبعضها! ما لها وللجمال حتى تقترن به؟! إنّها من ألوان السلوك غير المستحب، ومن أنواع الحلال البغيض عند الله الذي شرعه ليتيسّر للحياة أسباب الجمال!
لقد اقترن الجمال بالصبر، واقترن بالصفح.
واقترن بسراح المرأة من عصمة الزوجية، واقترن بالهجر.
إنّ الصبرَ من أعظم الصفات التي تزداد بها النفس جمالاً وكمالاً، والصبر الجميل هو الذي تزدان النفس فيه باليقين والثقة، وتمتلئ بالأمل، ويغمرها بالرجاء في الله، وتكون بمنأى عن الجزع والسخط على القضاء.
وجاء الحديث عن الصبر الجميل في موضعين، كلاهما في سورة يوسف، أولهما: على لسان يعقوب عليه السلام، وقد جاءه أبناؤه يخبرونه بأنّ يوسف أكله الذئب، وبرهنوا على قولهم بدمٍّ كذب على قميصه، وبرغم الفاجعة الرهيبة على قلب الأب المؤمن واجه الأمر بأناة بالغة، وثقة عظيمة، جعلته يحسّ أنّ الأمر على غير ما صوّر أبناؤه، وتذرّع بالصبر الجميل، يقول تعالى على لسانه: {قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون} (يوسف:18).
وثانيهما: على لسان يعقوب أيضاً، عندما جاءه نبأ احتجاز ابنه الثاني في سجن العزيز بمصر، وبرُغم تتابع المحنة، وعمقها في وجدان الشيخ الرسول، لكن مايزال للصبر الجميل الغلبة على مشاعره، فقال: {بل سوّلت لكم أنفسُكم أمراً فصبرٌ جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنّه هو العليم الحكيم} (يوسف:83}.
ويقترن الجمال بالصفح، وهو من أسمى الصفات، إذ هو يعني التغاضي عن إساءات الآخرين. وقد طلبه الله تبارك وتعالى من نبيّه في مواجهة المُعرضين المُكذّبين من قومه، مُبيّناً له أنّه صاحب رسالة مُهمّتها الهداية، وعقاب الضّالين مرجعه لرب العالمين، والساعة آتية لا ريب فيها، فقال تعالى: {وما خَلَقنَا السَّمواتِ والأرضَ ومَا بَينهما إلاَّ بالحقِّ وإنّ السَّاعةَ لآتيةٌ فاصفَحِ الصَّفحَ الجميل} (الحجر:85}.
¥