تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم إن في تكرير الأفعال بلفظ الحال والمستقبل حين أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه، وبلفظ الماضي حين أخبر عنهم، سرٌّ بديع؛ وهو الإشارة والإيماء إلى عصمة الله تعالى له عن الزيغ، والانحراف عن عبادة معبوده، والاستبدال به غيره .. وأن معبوده عليه الصلاة والسلام واحد في الحال، وفي المآل على الدوام، لا يرضى به بدلاً، ولا يبغي عنه حولاً، بخلاف الكافرين، فإنهم يعبدون أهواءهم، ويتتبعون شهواتهم في الدين، وأغراضهم .. فهم بصدد أن يعبدوا اليوم معبودًا، وغدًا غيره.

والفائدة الخامسة: هي أنه لم يأت النفي في حق الكافرين إلا باسم الفاعل: {ولا أنتم عابدون}. وفي جهته صلى الله عليه وسلم جاء النفي بالفعل المضارع: {لا أعبد} تارة، وباسم الفاعل: {ولا أنا عابدٌ} تارة أخرى. وذلك- والله أعلم- لنكتة بديعة؛ وهي أن المقصود الأعظم من ذلك براءته صلى الله عليه وسلم، من معبوديهم بكل وجه، وفي كل وقت. ولهذا أتى في هذا النفي بصيغة الفعل الدالة على الحدوث، والتجدد، ثم أتى بصيغة اسم الفاعل الدالة على الوصف، والثبوت؛ فأفاد في النفي الأول أن تلك العبادة لا تقع منه أبدًا، وأفاد في النفي الثاني أن تلك العبادة ليست من وصفه، ولا من شأنه. فكأنه قال عليه الصلاة والسلام: عبادة غير الله تعالى لا تكون فعلاً لي، ولا وصفًا، فأتى بنفيين لمنفيين مقصودين بالنفي.

وأما في حق الكافرين فإنما أتى باسم الفاعل الدال على الوصف والثبوت دون الفعل، فأفاد ذلك أن الوصف الثابت اللازم العائد لله تعالى منتف عن الكافرين؛ لأن هذا الوصف ليس ثابتًا لهم؛ وإنما هو ثابت لمن خصَّ الله تعالى وحده بالعبادة، ولم يشرك معه فيها أحدًا.

فتأمل هذه النكتة البديعة، كيف تجد في طيَّها أنه لا يوصف بأنه عابد لله تعالى، وأنه عبده المستقيم على عبادته إلا من انقطع إليه بكلِّيته، وتبتَّل إليه تبتيلاً، لم يلتفت إلى غيره، ولم يشرك به أحدًا في عبادته. وإنه، وإن عبده، وأشرك به غيره، فليس بعابد لله تعالى، ولا عبدًا له .. قال ابن قيِّم الجوزيَّة معقبًا على ذلك:" وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة، التي هي إحدى سورتيْ الإخلاص، والتي تعدل ربع القرآن، كما جاء في بعض السنن. وهذا لا يفهمه كل أحد، ولا يدركه إلا من منحه الله فهمًا من عنده .. فلله الحمد والمنة ".

والفائدة السادسة: هي أن النفي في هذه السورة أتى بأداة النفي (لا)، دون (لن). وذلك؛ لأن النفي بـ (لا) أبلغ منه بـ (لن) وآكَدُ. وأن (لا) أدل على دوام النفي، وطوله من (لن)، وأنها للطول، والمدِّ في لفظها طال النفي بها، وامتدَّ .. وهذا خلاف لما قرَّره النحاة والمفسرون، حين زعموا أن (لن) - عند علماء اللغة- آكَدُ في النفي من (لا)، وأبلغ. وهو زعم باطل من مزاعم المعتزلة، ردَّه الواحدي- كما ذكر الفخر الرازي- بقوله:"

والفائدة السابعة: هي اشتمال هذه السورة العظيمة على النفي المحض. وهذا هو خاصيَّتها؛ فإنها سورة براءةٍ من الشرك- كما جاء في وصفها .. فالمقصود الأعظم منها هو البراءة المطلوبة بين الموحدين، والمشركين. ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة، مع أنها متضمنَّة للإثبات صريحًا. فقوله تعالى على لسن نبيه صلى الله عليه وسلم: {لا أعبد ما تعبدون} براءة محضة. وقوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} إثبات أن له عليه الصلاة والسلام معبودًا، يعبده، وأنهم بريئون من عبادته، فتضمنت بذلك النفي، والإثبات، وطابقت قول إمام الحنفاء سيدنا إبراهيم عليه السلام: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} [الزخرف:26 - 27]، وطابقت قول الفئة الموحِّدين: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله} [الكهف:16]. فانتظمت بذلك حقيقة (لا إله إلا الله). ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن هذه السورة العظيمة بسورة (قل هو الله أحد)، في سنة الفجر، وسنة المغرب. فإن هاتين السورتين (سورتي الإخلاص) قد اشتملتا على نوعَيْ التوحيد، الذي لا نجاة للعبد، ولا فلاح له إلا بهما:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير