الأول- توحيد العلم والاعتقاد المتضمِّن تنزيه الله تعالى عما لا يليق به من الشرك والكفر، والولد والوالد، وأنه إله أحد صمد، لم يلد فيكون له فرع، ولم يولد فيكون له أصل، ولم يكن له كفوًا أحد، فيكون له نظير. ومع هذا فقد اجتمعت له جل جلاله صفات الكمال كلها؛ فتضمنَّت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال، ونفي ما لا يليق بجلاله من الشريك أصلاً وفرعًا، وشبيهًا ومثيلاً. فهذا توحيد العلم والاعتقاد.
والثاني- توحيد القصد والإرادة؛ وهو أن لا يُعبدَ إلا إياه، فلا يُشرك به في عبادته سواه، بل يكون وحده هو المعبود. وسورة (قل يا أيها الكافرون) مشتملة على هذا النوع من نوعي التوحيد، فتضمنت بذلك السورتان نوعي التوحيد، وأخلصتا له.
والفائدة الثامنة: هي في قوله تعالى: {قل يا أيها الكافرون}. يقول النحويون: إن الألف واللام في قوله {الكافرون} بمعنى (الذي). وعليه يكون المعنى: قل: يا أيها الذين كفروا. وعلى هذا جاء قوله تعالى: {يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون} [التحريم:7]، بإزالة فعل القول .. فلمَ قال هنا: {يا أيها الذين كفروا}، وقال في الأولى: {قل يا أيها الكافرون}؟
والجواب عن ذلك: أن آية التحريم إنما تقال لهم يوم القيامة؛ وهو يوم لا يكون فيه الرسول رسولاً إليهم، فأزال الوساطة؛ وهي {قل}. ثم إنهم في ذلك اليوم يكونون مطيعين، لا كافرين؛ فلذلك ذكرهم بقوله: {الذين كفروا}. وأما في الأولى فكانوا موصوفين بالكفر، وكان الرسول رسولاً إليهم؛ فلهذا خاطبهم بقوله: {قل يا أبها الكافرون}. وفي ذلك إشارة إلى أن من كان الكفر وصفًا ثابتًا له، لازمًا لا يفارقه، فهو حقيق أن يتبرَّأ الله تعالى منه، ويكون هو أيضًا بريئًا من الله تعالى.
والفائدة التاسعة: هي في قوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين}. والسؤال هو: هل أفاد هذا معنى زائدًا على ما تقدَّم؟ والجواب: أن النفي في الآيات السابقة أفاد براءته صلى الله عليه وسلم من معبوديهم، وأنه لا يتصور منه، ولا ينبغي له أن يعبدهم، وهم أيضًا لا يكونون عابدين لمعبوده. كما أفاد إثبات ما تضمنه النفي من جهتهم من الشرك، والكفر الذي هو حظهم، ونصيبهم؛ فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو، وغيره أرضًا، فقال له: لا تدخل في حدِّي، ولا أدخل في حدِّك، لك أرضك، ولي أرضي .. فتضمَّنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أن المؤمنين، والكافرين اقتسموا حظهم فيما بينهم، فأصاب المؤمنين التوحيد والإيمان. فهو نصيبهم الذي اختصوا به، لا يشركهم الكافرون فيه. وأصاب الكافرين الشرك بالله تعالى والكفر به. فهو نصيبهم الذي اختصوا به، لا يشركهم المؤمنون فيه.
ثم إن في تقديم حظ الكافرين ونصيبهم- هنا- على حظ المؤمنين ونصيبهم، وتقديم ما يختص به المؤمنون على ما يختص به الكافرون في أول السورة، من أسرار البيان، وبديع الخطاب ما لا يدركه إلا فرسان البلاغة وأربابها. وبيان ذلك: أن السورة، لما اقتضت البراءة، واقتسام دينَيْ التوحيد، والشرك بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الكافرين، ورضي كلٌّ بقسمه، وكان المحق هو صاحب القسمة، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون، وأنه استولى على القسم الأشرف، والحظ الأعظم، أراد أن يشعرهم بسوء اختيارهم، فقدم قسمهم على قسمه، تهكمًا بهم، ونداء على سوء اختيارهم، فكان ذلك- كما يقول ابن قيِّم الجوزيَّة- بمنزلة من اقتسم هو، وغيره سُمًَّا، وشفاءً، فرضي مقاسمه بالسمِّ؛ فإنه يقول له: لا تشاركني في قسمي، ولا أشاركك في قسمك. لك قسمك، ولي قسمي! ولهذا كان تقديم قوله: {لكم دينكم} على قوله: {ولي دين} - هنا- أبلغ وأحسن. وكأنه يقول: هذا هو قسمكم، الذي آثرتموه بالتقديم، وزعمتم أنه أشرف القسمين، وأحقهما بالتقديم!!
وذكر ابن قيِّم الجوزيَّة وجهًا آخر؛ وهو: أن مقصود السورة براءة النبي صلى الله عليه وسلم من دينهم، ومعبودهم- هذا هو لبها ومغزاها- وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني مكمِّلاً لبراءته، ومحققًا لها. فلما كان المقصود براءته من دينهم، بدأ به في أول السورة، ثم جاء قوله: {لكم دينكم} مطابقًا لهذا المعنى. أي: لا أشارككم في دينكم، ولا أوافقكم عليه. بل هو دين تختصون به أنتم، فطابق آخر السورة أولها.
فتأمل هذه الأسرار البديعة المعجزة، واللطائف الدقيقة، التي تشهد بأن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد، وأنه الأعلى في الفصاحة، والبلاغة، والبيان!
محمد إسماعيل عتوك
ـ[أنا الرشاش]ــــــــ[10 - 05 - 2004, 05:08 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته0
بارك الله فيك يا أخي الهيثم، وجزاك من فضله خير الجزاء على هذه الهدية التي لا تقدر بثمن، وجعل ذلك في ميزان حسناتك، وحسنات صاحب المقال0
لقد قرأت اليوم مقالا ممتعا للأستاذ محمد إسماعيل عتوك، قام بنشره وتوزيعه على طلاب جامعة بيت لحم في فلسطين أخ فاضل من أبناء بيت لحم يدعى أبا الفضل، فجزاه الله خيرا على ما فعل0 وهذا ما شدني إلى قراءة هذا المقال الرائع00 وأتمنى أن تعرض علينا المزيد من هذه الدرر والجواهر، لينتفع بها الجميع0
¥