فيقول:" كان القياس أن يحرّك، لأن حرف الجر، إذا دخل على ما يستعمل ظرفا، أخرجه من أن يكون ظرفا، وصار بمنزلة ما هو غير ظرف " (32)
مكانة الفارسي في القياس:
سيطر العقل والمنطق على منهج أبي علي الفارسي في القياس، فتثمل هذا المنهج بالمناقشات العقلية، فقد توسع في القياس، وتعمق فيه نتيجة لتأثره بالفلسفة والمنطق، لذلك أصبح القياس يكتسب مفهوما جديدا نتيجة لهذا الأثر الواضح.
كرس الفارسي جهده الكبير في القياس إلى جانب فكره الثاقب وعقليته التي كان يسيطر عليها مذهب المعتزلة، فهم يمجدون العقل ويجعلون الجدل والمنطق مسرحا لهم، وهذا ما يلاحظه الباحث في كتب الفارسي، فقد أكثر من التحليل والتعليل مما أدّى به إلى التوسع في القياس، الأمر الذي يؤكد تفوق العقلية العلمية عنده، فهو يردّ ويرجح ويتابع المسألة بتسلسل علمي لأنه كان شديد التمسك بالقياس وكان يقول:"اخطئ في خمسين مسألة في اللغة ولا اخطئ في واحدة من القياس " (33)
وذهب احمد أمين إلى أن الفارسي وتلميذه ابن جني زعيما مدرسة القياس، وقد عدّ أبا علي الفارسي أيضاً انه ممثل جماعة الأحرار التي تميل إلى التجديد ومجابهة القديم بعد أن قسّم النحاة واللغويين إلى محافظين وأحرار. (34)
وقد رفض الدكتور عبد الفتاح شلبي هذا الموقف، وأكد أن الفارسي اقرب إلى المحافظين منه إلى المجددين وانه كان محافظاً في تجديده. (35)
والخلاف الذي وقع بين الباحثين في قياس الفارسي يرجع للنصوص التي وقف عليها كل منهما، فالدكتور احمد أمين وقف على مجموعة قليلة من النصوص استنتج من خلالها أن الفارسي يمثل جماعة الأحرار. وذكر الدكتور احمد أمين رأيه هذا في مقال لا يتعدى بضع صفحات، بينما نجد الدكتور عبد الفتاح شلبي قد فصّل البحث في المسألة لأنه تناولها من جميع جوانبها، فقد اثبت ان الفارسي لا يمثل جماعة الأحرار بل هو اقرب إلى المحافظين. وحجته في ذلك أن منهج الفارسي لا يقيس على الشاذ ولا يأخذ به إنما يحفظ ولا يقاس عليه، وان السماع مقدّم على القياس، وان الهدف من القياس هو تمكين غير العربي من النطق بما نطق به أهل العربية.
ومن الجدير بالملاحظة عدم الخلط بين ما هو أصيل وما هو عرضي؛ فالنصوص التي تجعل الفارسي يقترب من المحافظين هي الأصل الذي استند عليه قياسه، وان هذا القياس جاء محافظاً على اللغة. فالنصوص التي وردت عند الفارسي تُجمع على أن السماع يعاضد القياس وإذا كان غير ذلك وجب طرح القياس ,وأما النصوص التي دعت بعض الباحثين للقول الآخر فهي نصوص عرضية ولا يجوز أن نبني عليها رأياً عاماًّ.
ذكر بعض المسائل في كتاب الشعر:
واعرض الآن لبعض المسائل النحوية التي تناولها الفارسي في هذا الكتاب، والتي تبين منهجه في القياس:
*هذا باب في تفسير الكلم التي سميت بها الأفعال:
قال الأعشى:
فاذهبي ما إليك أدركني الحلـ مُ عداني عن هيجكم إشغالي
وانشد أبو زيد:
أعيّاشُ قد ذاق القيون مرارتي وأوقدت ناري فادن دونك فاصطل
وانشد أبو عبيدة:
فقلت لها فيئي إليك فإنني حرامٌ واني بعد ذاك لبيب
وانشد احمد بن يحيى:
اذهب إليك فاني من بني أسد أهل القباب وأهل الخيل والنادي
وقال الفرزدق:
إذا جشأت نفسي أقول لها ارجعي وراءك واستحيي بياض اللهازم
وانشد علي بن سليمان:
فرّت يهود وأسلمت جيرانها صميّ لما فعلت يهود صمام
وقال:
أيوعدني بالقتل أعور عاقر إليك فنهنه من وعيدك عامر
وقال الأسود بن يعفر:
كان التفرق بيننا عن مئرة فاذهب إليك فقد شفيت فؤادي
وقال عمرو بن كلثوم:
إليكم يا بني بكر البكم ألما تعلموا مناّ اليقينا
قال أبو علي رحمه الله: أن سأل سائل عن هذه الكلم، أأسماء هي أم أفعال؟
قلنا: إنها أسماء، والدلالة على ذلك أنها لا تخلو من أن تكون أسماء ً أو أفعالاً.
ولو كان شيءٌ من ذلك فعلا ً، لاتّصل الضمير بما اتصل به منها، على حدّ ما يتصل بالأفعال، فلما اتصل به على حد اتصاله بغير الفعل، ثبت انه اسم ليس بفعل.
فلمّا كان (هاء) اسماً لقولهم: خذ، واتصل بالضمير، على حد اتصاله بغير الفعل، في قولهم: هاؤما، وهاؤم، ولم يكن: هاءا، ولا هاؤا كقولهم: اضربا، واضربوا، ولكن كقولك: أنتما، وانتم، دلّ انه ليس بفعل، وإذا لم يكن فعلاً كان اسماً.
¥