واعلم أن الفعل الذي لا يتعدى الفاعل يتعدى إلى اسم الحدثان الذي أخذ منه؛ لأنه إنما يذكر ليدل على الحدث. ألا ترى أن قولك قد ذهب بمنزلة قولك قد كان منه ذهاب. وإذا قلت ضرب عبد الله لم يستبن أن المفعول زيد أو عمرو، ولا يدل على صنفٍ كما أن ذهب قد دل على صنف، وهو الذهاب، وذلك قولك ذهب عبد الله الذهاب الشديد، وقعد قعدة سوء، وقعد قعدتين، لما عمل في الحدث عمل في المرة منه والمرتين وما يكون ضرباً منه. فمن ذلك: قعد القرفصاء، واشتمل الصماء، ورجع القهقري، لأنه ضرب من فعله الذي أخذ منه.
ويتعدى إلى الزمان، نحو قولك ذهب لأنه بني لما مضى منه وما لم يمض، فإذا قال ذهب فهو دليل على أن الحدث فيما مضى من الزمان، وإذا قال سيذهب فإنه دليل على أنه يكون فيما يستقبل من الزمان، ففيه بيان ما مضى وما لم يمض منه، كما أن فيه استدلالاً على وقوع الحدث. وذلك قولك قعد شهرين، وسيقعد شهرين، وتقول: ذهبت أمس، وسأذهب غداً، فإن شئت لم تجعلهما ظرفاً، فهو يجوز في كل شيء من أسماء الزمان كما جاز في كل شيء من أسماء الحدث.
ويتعدى إلى ما اشتق من لفظه اسماً للمكان وإلى المكان؛ لأنه إذا قال ذهب أو قعد فقد علم أن للحدث مكاناً وإن لم يذكره كما علم أنه قد كان ذهاب، وذلك قولك ذهبت المذهب البعيد، وجلست مجلساً حسناً، وقعدت مقعداً كريماً، وقعدت المكان الذي رأيت، وذهبت وجهاً من الوجوه. وقد قال بعضهم ذهب الشام، يشبهه بالمبهم، إذ كان مكاناً يقع عليه المكان والمذهب. وهذا شاذ؛ لأنه ليس في ذهب دليل على الشام، وفيه دليل على المذهب والمكان. ومثل ذهبت الشام: دخلت البيت. ومثل ذلك قول ساعدة بن جوية: لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب
ويتعدى إلى ما كان وقتاً في الأمكنة كما يتعدى إلى ما كان وقتاً في الأزمنة لأنه وقت يقع في المكان، ولا يختص به مكان واحد، كما في الزمن كان مثله؛ لأنك قد تفعل بالأماكن ما تفعل بالأزمنة وإن كان الأزمنة أقوى في ذلك. وكذلك ينبغي أن يكون إذ صار فيما هو أبعد نحو ذهبت الشام، وهو قولك ذهبت فرسخين، وسرت الميلين، كما تقول ذهبت شهرين وسرت اليومين. وإنما جعل في الزمان أقوى لأن الفعل بنى لما مضى منه وما لم يمض، ففيه بيان متى وقع، كما أن فيه بيان أنه قد وقع المصدر وهو الحدث. والأماكن لم يبن لها فعل، وليست بمصادر أخذ منها الأمثلة، والأماكن إلى الأناسي ونحوهم أقرب. ألا ترى أنهم يخصونها بأسماء كزيد وعمرو، وفي قولهم مكة وعمان ونحوها، ويكون منها خلق لا تكون لكل مكان ولا فيه، كالجبل والوادي، والبحر. والدهر ليس كذلك. والأماكن لها جثة، وإنما الدهر مضى الليل والنهار، فهو إلى الفعل أقرب.
ـ[المكي]ــــــــ[19 - 01 - 2006, 12:42 م]ـ
(9)
الفاعل
الذي يتعداه فعله إلى مفعولين فإن شئت اقتصرت
على المفعول الأول وإن شئت تعدى إلى الثاني كما تعدى إلى الأول.
وذلك قولك: أعطى عبد الله زيداً درهماً، وكسوت بشراً الثياب الجياد. ومن ذلك: اخترت الرجال عبد الله، ومثل ذلك قوله عز وجل: "واختار موسى قومه سبعين رجلاً "، وسميته زيداً، وكسيت زيداً أبا عبد الله، ودعوته زيداً إذا أردت دعوته التي تجري مجرى سميته، وإن عنيت الدعاء إلى أمر لم يجاوز مفعولاً واحداً. ومنه قول الشاعر: أستغفر الله ذنباً لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل
وقال عمرو بن معد يكرب الزبيدي: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وإنما فصل هذا أنها أفعال توصل بحروف الإضافة، فتقول: اخترت فلاناً من الرجال، وسميته بفلان، كما تقول: عرفته بهذه العلامة وأوضحته بها، وأستغفر الله من ذلك، فلما حذفوا حرف الجر عمل الفعل. ومثل ذلك قول المتلمس: آليت حب العراق الدهر أطعمه والحب يأكله في القرية السوس
يريد: على حب العراق.
وكما تقول: نبئت زيداً يقول ذاك، أي عن زيد. وليست عن وعلى ههنا بمنزلة الباء في قوله: "كفى بالله شهيداً "، وليس بزيد؛ لأن عن وعلى لا يفعل بها ذاك، ولا بمن في الواجب.
¥