تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[جمال اللغة]

ـ[غدي الامل]ــــــــ[10 - 08 - 2010, 03:38 ص]ـ

"من كل بستان زهرة"

من قديم، وعلماؤنا العرب يحاولون الكشف عن الصلة الخفية التي تربط بين اللفظ ودلالته، أي الكلمة ومعناها، بسبب اعتزازهم بلغتهم، وإعجابهم بها، وحرصهم على الكشف عن أسرارها. من أطرف ما ذهب إليه بعضهم - في هذا المجال -

أن الكلمة مهما قلبناها على وجوهها المختلفة - المشتقة من جذرها الأصلي - تشتمل على معنى عام مشترك.

مثلا، كلمة (جبر) تتضمن في رأيهم معنى القوة والشدة مهما صنعنا من حروفها (ج، ب، ر) كلمات ومفردات جديدة. يقال: جبرت العظم، أي قويته بالمعالجة. وجبرت الفقير: أي قويته وأعنته بالمساعدة. والجبروت: هو القوة.

والجبار: الشدة والقوة والبأس والبطش. والجبر: هو الأخذ بالقوة. ورجل مجرب: أي مارس الأمور فاشتدت قوته ودرايته وخبرته.

والجراب: إنما سمي بهذا الاسم لأنه يحفظ ما فيه، والشيء إذا حفظ قوي واشتد. ومثل كلمة (جبر) كثير في لغتنا الجميلة.

* ويروون أنه لما حملت قطر الندى بنت خمارويه إلى الخليفة العباسي المعتضد ليتزوجها، كتب معها أبوها رسالة يوصيه فيها بها خيرا. فأمر المعتضد وزيره بالجواب على كتاب خمارويه، وكلف الوزير أحد كتابه بالرد، وغاب الكاتب بعض الوقت يصوغ رده على الرسالة ثم أتى بنسخة يقول فيها:

وأما الوديعة فهي بمنزلة شيء انتقل من يمينك إلى شمالك، عناية بها وحياطة لها.

وأقبل الكاتب على الوزير معجبا بحسن ما وقع له من الكلمات قائلا: إن تسميتي لها بالوديعة، نصف البلاغة.

فقال الوزير: ما أقبح هذا .. تفاءلت لامرأة زفت إلى صاحبها بالوديعة، والوديعة مستردة!

* ترى ما الذي يخطر ببالنا، وما الذي نتصوره، عندما نردد كلمة كالفضيلة أو الخير أو الحق أو الصدق أو سواها من الكلمات القليلة الحروف، العامرة بالمعاني الكبيرة.

لقد تناول الكاتب الكبير عباس محمود العقاد بأسلوبه المبني علي الحجة والمنطق موضوع الخير والسعادة، وتساءل: أيهما نتمناه أكثر: الخير أو السعادة؟

وهل ترانا نرجو أن نوصف بالأخيار أو أن نوصف بالسعداء؟

ثم يقول: بغير حاجة إلى استفتاء يمكننا أن نؤكد أن السعادة تظفر بأكثر الأصوات فنحن في الواقع نختار اسما جذابا حين نختار السعادة، ونحن إذا تصورنا السعادة فصورتها أمامنا صورة فتاة حسناء، تمتع الحس والنفس، وتشبع اللذة والأمل. إن صورة السعادة صورة أنثوية، حافلة بالإشراق والمتعة والجمال.

أما الخير، فيغلب على الخيال أن يرسمه لنا في صورة شيخ جليل، مهيب الطلعة، طويل اللحية، يجلله الوقار.

وشتان بين الصورتين.

* وتتميز لغتنا الجميلة بأسرار شتى في تراكيبها واستعمالاتها، ولا بد من الالتفات إلى الفروق الدقيقة بين هذه الاستعمالات، حتى يكون كلامنا وتعبيرنا صحيحا وجميلا في الوقت نفسه.

فنحن نقول: دعا له، في مجال الخير. ودعا عليه، في مجال الشر.

ونستعمل وعد: للخير والعطاء (وعدته بكذا). أما أوعد: فتستعمل في مجال التهديد والوعيد. ونقول فرط: ومعناها قصر (فرط في أداء الواجب). أما أفرط: فمعناها أسرف وتجاوز الحد (أفرط في الشراب).

ونقول: أشار عليه بكذا: في مجال الرأي والمشورة. أما أشار إليه: فتستعمل في مجال الإشارة باليد. ونقول: أشفق منه، بمعنى خاف منه. أما أشفق عليه، فمعناها عطف عليه.

ومثل هذا كثير في لغتنا الجميلة.

* ومن الطريف أن بعض الكلمات في لغتنا العربية تستعمل للتعبير عن أشياء متعددة، من غير أن يكون بين هذه الأشياء علاقة ظاهرة.

مثلا: كلمة "العين"، المعنى الشائع لها أنها عضو الإبصار لدى الكائن الحي.

ومن معانيها أيضا: الشمس، وإنما سميت الشمس عينا لأنه من غير نورها لا تبصر العين،

والعين، هو الحارس،

وهو أيضا الجاسوس، لأن مهمته تعتمد على العين ويقظتها.

وعين الشيء: نفسه، يقال: حضر فلان عينه، للإثبات والتأكيد. وعن الشيء أيضا: خياره وأفضله وأغلى ما فيه، كما أن عين الإنسان أغلى حواسه، ولذلك يقال لأشراف القوم أعيان.

والأب والأم، كل منهما عين لابنه، والجمع: أعيان، ولذلك يقال للإخوة من الأبوين: بنو الأعيان.

* ومما يؤثر عن العرب القدماء دقتهم في استعمال كل كلمة في موضعها الصحيح، بحيث تنفرد بمعناها ودلالتها،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير