تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كلُّ شيء للناس - مقال اخترته

ـ[السراج]ــــــــ[10 - 08 - 2010, 06:34 ص]ـ

كل شيء للناس!

علي الطنطاوي

من عادتي أن لا أركب إن استطعت المشي, ولا أمشي في الظل إن قدرت أن أمشي في الشمس, سواء علي في ذلك شمس لبنان في تشرين وشمس الهند في تموز.

وكان النهار أمس صائفًا حارًا, فحللت هذا الرباط عن عنقي وطويته ووضعته في جيبي فمرّ بي صديق أحبه وأحترمه, ولكني أنكر عليه أنه يتمسك بالعادات أكثر من تمسك العابد بالدين, ويحرص على رضا الناس أشد من حرص الزاهد على رضا الله.

فلم يكد يفرغ من السلام حتى أقبل عليّ صارم الوجه بادي الاهتمام فقال:

وكيف تصنع هذا؟

فارتعبت وقلت: وماذا صنعت؟

ورجعت أذكر: هل أحدثت في الإسلام حدثًا؟ أو آويت محدثًا أو جنية جناية؟ فلما لم أذكر قلت

وضّح يا أخي وقل لي ما الذي بلغك عني, فلعل الذين بلّغك فاسق أو كاذب.

قال: ما بلّغني أحد ولكني أرى بعيني.

وأشار إليّ. قلت: وما ذاك؟

قال: العقدة (الكرافات). كيف تمشي بلا عقدة؟ هذا لا يليق بمستشار. ماذا يقول عنك الناس؟

فتركت الحوار وقعدت أفكر ... فإذا نحن نعمل كل شيء للناس.

نخنق أنفسنا بهذه العقد التي نضعها في أعناقنا كالأرسان ونتكلف منها في حر الصيف ما لا يُطاق من أجل الناس!

والنساء يتخذن هذه الأحذية الفظيعة ذوات الكعوب العالية مع أن المشي بها أصعب من المشي على الحبل.

ومّن لم يصدّق من الرجال فليمشِ مئة خطوة على رؤوس أصابع قديمه!

وهي – فوق ذلك – تُصلّب عضلات الساق وتشوّه جمالها, وما للبسها معنى وليس فيها جمال, ولكن هكذا يريد الناس!

ورأيت مرة امرأة واقفة في الترام والمقاعد خالية, وكلما دعوها لتجلس أبت, ثم تبين لي أنها تلبس إزارًا (خرّاطة أو جونيلا) ضيقا عجيبًا لا تستطيع معه المشي إلا كمشي المقيّد بالحديد, ولا تستطيع صعود درجة الترام إلا بكشف رجليها وإخراجهما منها, فلذلك لا تستطيع القعود.

تتساءلون:

لماذا تعذّب نفسها هذا العذاب؟

من أجل الناس!

ومن الشبّان من يصفف شعر رأسه تصفيفًا فنيًا يشتغل به نصف ساعة, ويبقى النهار كله خائفًا أن تهب نسمة هواء أو أن تقترب منه يد طائشة في الترام فتفسد هندسته.

وربما أدركته الحكة فاحتمل ألمها طول النهار ولم يستطع أن يمد أصبعه فيحكه,

لماذا؟ لأجل الناس! وكل خير هو للناس!

المرأة ظرفها ولطفها للناس. تقابل ضيوفها وصديقاتها بالوجه المشرق والفم الباسم والجَرْس الناعم والأدب البالغ, وزوجها ليس له إلا التجهم والنظر الشزر واللفظ الجافي.

وكذلك يصنع الزوج!

وزينتها للناس, إذا خرجت تزيّنت للغرباء وتعطرت وارتدت أجمل أثوابها , وزوجها لا تلقاه إلا منفوشة الشعر كالحة الوجه, تسبقها روائح السمن والبصل والثوم. وكذلك يصنع الزوج!

والمائدة المربَّة في غرفة الطعام للناس؛ فإذا جاء الناس صُفّت الأطباق والصحون ونُضدت الأوراد والزهور, وإن لم يكن أحد كان الأكل في المطبخ ....

نتعب أنفسنا ونقيد أعناقنا وأرجلنا للناس, وكل خير عندنا للناس.

وإن أردنا أن نزوج البنت لم ننظر إلى مصلحتها ومصلحة زوجها ولم نفكر في إسعاد حياته وحياتها, ولكن فكّرنا في أيام العرس وحدها وسعينا لإرضاء الناس فقط.

لا نسأل (إلا قليلًا) عن أخلاق الرجل وطباعه, بل نسأل عن المهر الذي يدفعه لنقول للناس:

" مهر بنتنا عشرة آلاف ". وعن الجهاز ليراه الناس فيقولوا:

" ما شاء الله, والله جهاز عظيم ".

وعن حفلة العرس, نتسابق لإرضاء الشيطان بإضافة الأموال في هذا وأمثاله.

ثوب العرس الذي لا يُلبَس إلا ليلة واحدة فقط يكلف مئتي ليرة على الأقل, وقد يصل ألفين. وعلب الملبّس ثمن الواحدة ليرة على الأقل, وقد تصل إلى العشرين. وفيمن كل ذلك؟ لفائدة العروس؟ لا والله. للثواب والجنة؟ لا والله. لكسب المال؟ لا والله. فلِمَ إذن؟ للناس! والناس – بعد ذلك – لا يرضون؛ لأنك مهما أنفقت فإن في الناس من بنفق أكثر منك, فيقولون: " ما هذه الحفلة؟ وما هذه العلب؟ علب فلان كان ثمنها أكثر وحفلة فلانة كانت أكبر".

والمآتم مثل الأفراح؛ كلها تسابقٌ إلى إضاعة المال. وياليت الأمر يقتصر على أصحاب العرس أو عائلة الميت.

لا؛ ولكن كل زواج وكل وفاة فيها نكبة ثلاثين أسرة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير