تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد أخبرنا – رحمه الله تعالى – كما سبقت الإشارة إليه؛ أنه ماعهد على نفسه أنه حفظ شيئا ونسيه، وسألته عن مدى حفظه في الحديث؛ فقال: ((كثير)). ولو علمت أن طريقته في تدريس الحديث كانت بأنه: يحفظ الحديث، ورجال إسناده، وأحوالهم، ويدرس فقهه، واختلاف الأئمة المجتهدين في ذلك، ثم يتلو ذلك في درسه بنغمة خاصة، ذاكرا مرتبة الحديث من حيث الصحة والضعف مجتهدا غير مقلد، كل ذلك من حفظه، وأنه درس البخاري ومسلما والموطأ وأكثر من ثلاثة آلاف حديث من مسند الإمام أحمد ... وغير ذلك من كتب الحديث، ورحل من أجل تعلمه وكتب وجمع؛ لعلمت أن الرجل كان حافظا من حفاظ الحديث القلائل، وأنه يحفظ ما لا يقل عن عشرين ألف حديث بأسانيدها ومتونها؛ فهو من الذين تفردوا بهذه الرتبة في عصرهم، علاوة على من أنتجهم من العلماء في الحديث، وما ألفه من التآليف.

أما اللغة بعلومها؛ فقد كان عالما بها مشاركا، متمكنا فصيحا بليغا، مرجعا في ذلك ...

وفي الأدب: بحر لا تكدره الدلاء، إمام يجارى به أعلام الدلاء1، وكأنه تخرج من جامع قرطبة، أو معاهد إشبيلية، أو أنه درس على ابن بسام أو الثعالبي. علاوة على حفظه أشعار وأخبار القدامى من الأدباء وغيرهم.

أما التاريخ القديم والحديث؛ فقد كانت إليه المرجعية فيه، وفي فلسفة التاريخ، يملأ مجالسه بأخبار الأمم السالفة واللاحقة، وقد دون مذكرات لنفسه أربت على مائة جزء ...

أما الأنساب؛ فقد كان نسابة عارفا بفروع الأشراف وأصولهم؛ وخاصة الأدارسة منهم، وبالأخص: أنساب الأشراف الكتانيين، فهو المرجع في ذلك، ومنبع أنهار ما هنالك، وعلى شجرته ذيل مولانا الوالد رحمه الله تعالى ورضي عنه.

أما علوم الشريعة الباقية؛ فقد كانت له فيه المشاركة التامة، واليد الطولى، حتى إنه كان إذا اجتمع في مجلس مع علماء أهل بيته؛ كشقيقه محدث المغرب الشيخ محمد الناصر الكتاني، وابن عمه علامة المغرب عبد الرحمن بن محمد الباقر الكتاني .. وغيرهما؛ يخيل إليك أن لسن العلم والأدب والفلسفة الإسلامية العليا قد اجتمعت في صعيد واحد ...

قل ما تشاء فأنت فيه مصدق الحب يقضي والمحاسن تشهد

وكان – رحمه الله تعالى – طلبة للكتب؛ لا يتركها وإن تركته، ولا يملها وإن ملته، حتى ذكر زملاؤه في الدراسة أنه كان يبقى ساهرا طول الليل إلى الصباح مطالعا ودارسا، وكذلك بقي إلى أن أقعد آخر عمره؛ يسهر الليل في المطالعة والعبادة إلى الضحى، ثم ينام إلى قبل الظهر بساعة، وينام القيلولة ساعة أو ساعتين، ولا يغير نظامه هذا إلا نادرا ..

وكان السبب في نهمه على المطالعة – كما حدثني والدي عنه – أنه شكا إلى ابن عم والده وشيخه الإمام محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني قلة اصطباره على المطالعة – وهو في يفاعته – فقال له ابن عمه: ((عندي دواؤك إن اتبعتني!))، فأعطاه قصصا صغيرة، وكلما أنهى واحدة يعطيه أخرى، ثم أعطاه قصص جرجي زيدان واحدة بعد الأخرى، ثم كتاب "ألف ليلة وليلة"؛ فالتهمها التهاما، ثم قال له: ((أما الآن؛ فلنبدأ بالجد!))، وأعطاه الكتب الكبيرة والمتخصصة في العلوم. وفي ذلك الوقت كان من السهل عليه قراءة تلك الكتب؛ لأن الأمر أصبح عادة وهواية لا تكلفا!.

أما سياسة العصر؛ فقد انتهت إليه معرفتها والتنبؤ بمستقبلها، كل من جالسه أو عاشره أو عرف سيرته؛ جزم بذلك، وكانت له اليد البيضاء على الأمة في ذلك قدر مستطاعه الفردي.

وكانت له محبة غير متناهية في الأمة الإسلامية، غيورا عليها، دافعا عمره وماله وجاهه من أجلها وأجل إعزازها. بل إن أردت اختصار حياته في لفظة واحدة، فقل: ((محاولة النهوض بأمة الإسلام!)). وقد عمل الكثير الكثير من أجل ذلك، وأصيب بمحاربات ونكبات شديدة كانت هي السبب في سكناه المغرب ثم الشام ثم الحجاز ... ثم الرجوع إلى المغرب.

فإنه لم يكن كباقي الفقهاء العادييين، أو ممن ليس لهم اعتناء بالواقع ومعرفته، فقد كان يرى أن الإسلام مصحف وسيف، دعوة ودولة، علم وعمل .. وأنه يعلو ولا يعلى عليه، حكيما في أفعاله وأقواله وحركاته.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير