أما الشافعي وابن حزم الظاهري –رحمة الله عليهم- فقد خالفوا الجمهور في هذه المسألة؛ فأجازوا قتل كل من عدا النساء والصبيان من أهل الحرب، ولو لم يشتركوا في القتال؛ سواء كانوا رجالاً بالغين أو شيوخاً مسنين .. ولهذا فإن كتب الفقه الأمهات لما تعرض لهذا الاختلاف لا تذكر إطلاقاً أن الأمة قد اختلفت فيما بينها في الجهاد: هل يقام أو لا يقام، أو أن هناك شروطاً لابد منها حتى يؤدي المسلمون فريضة الجهاد!! بل إن هذه الكتب في مبحث الجهاد تذكر اتفاق الأمة على هذه الفريضة وفضلها المتقدم .. وأنها فريضة دائمة قائمة إلى قيام الساعة .. ثم عندما يأتي الحديث عن أصناف الكفار الذين يُقتلون يقرر العلماء وجود أصناف قد نصّ الشرع على عدم قتلهم .. وأن هذه مسألة مختلف فيها .. كما مرّ آنفاً .. وهذا الاختلاف إنما كان تبعاً لاختلاف العلماء في العلة الموجبة لاستباحة دماء هؤلاء الأعداء .. " (9).
- قلت: ومما يؤكد تناقض من يدعي أن شيخ الإسلام ينفي جهاد "الطلب" أنه –رحمه الله- في هذه الرسالة المنسوبة إليه قد أشار إلى كتابه "الصارم المسلول" (كما في ص144) وأنت عندما تعود إلى "الصارم المسلول" تجد الشيخ يذكر جهاد "الطلب" ولا ينفيه! فقد قال –رحمه الله-: "لما نزلت سورة براءة أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتدئ جميع الكفار بالقتال…" (10).
الخلاصة: أن شيخ الإسلام سواء ثبتت له هذه الرسالة أم لم تثبت، فإنه لا ينفي جهاد "الطلب" لقتال من منع نشر الإسلام كما توهم البعض؛ إنما يُنكر على من يرى قتال جميع الكفار لمجرد "كفرهم"، فلا يستثني سوى النساء والصبيان وهذا ما قرره في هذه الرسالة وفي رسائله الأخرى كما سبق.
أقوال العلماء في الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام
لما رأيت أن عددًا من الإخوة الفضلاء لم يطلع على ما قاله العلماء في هذه الرسالة فقد أحببت أن أجمع ما تيسر لي من أقوالهم؛ لكي يحيط القارئ علماً بالرأي الآخر الذي يرى عدم صحة نسبة هذه الرسالة لشيخ الإسلام.
وقد سبق أن سبب نشاطهم لهذا الرأي هو ما فهمه الفريق الآخر من أن شيخ الإسلام يقرر فيها نفي "جهاد الطلب".
والصواب في ظني –كما أوضحت- أن شيخ الإسلام لا يقول بهذا القول المزعوم. إنما يرد على قول ضعيف –كما سبق-، يلتقي الجميع على رده والإنكار على أصحابه.
1 - الشيخ سليمان بن سحمان –رحمه الله-:
لما أُشيعت هذه الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام كان أول من تصدى لنفي نسبتها: الشيخ سليمان بن سحمان –رحمه الله-، في رسالة مفقودة –كما سيأتي- (11)
2 - الشيخ سليمان بن حمدان –رحمه الله-:
ألف الشيخ سليمان بن حمدان –رحمه الله- رسالته الشهيرة "دلالة النصوص والإجماع على فرض القتال للكفر والدفاع" لبيان تزوير هذه الرسالة على شيخ الإسلام –رحمه الله-، ومناقضة ما فهمه البعض منها لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولإجماع المسلمين، بل ولنصوص شيخ الإسلام نفسه في كتبه الأخرى.
يقول الشيخ ابن حمدان في مقدمة رسالته: "أما بعد فقد وقفت على رسالة منسوبة لشيخ الإسلام وعلم الهداة الأعلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه، مضمونها أن قتال الكفار سببه المقاتلة لا مجرد الكفر، وأنهم إذا لم يقاتلونا لم يجز لنا قتالهم وجهادهم على الكفر، وأن هذا القول هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، واستدل لما زعمه ببعض آيات شبه بها ولبس، وأولها على غير معناها المراد بها، مثل قوله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) الآية، وقوله (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه)، وقوله (لا إكراه في الدين) وحديثين حرفهما لفظاً ومعنى، وضرب صفحاً عن الآيات المحكمة الصريحة التي لا تحتمل التأويل، والأحاديث الصحيحة التي تكاد تبلغ حد التواتر في الأمر بقتال الكفار والمشركين حتى يتوبوا من كفرهم ويقلعوا عن شركهم، وهذه طريقة أهل الزيغ والضلال يدعون المحكم ويتبعون المتشابه؛ كما أخبر الله عنهم في قوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) ولما رآها بعض من ينتسب إلى العلم وليس من أهل الدراية والفهم صادفت هوىً في نفسه فطار بها فرحاً ظاناً أنها الضالة المنشودة، وراجت لديه بمجرد نسبتها
¥