تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والبحث عن الوصف الحق بين هذين اللونين من التطرف في فهم موضوع التأصيل، قد لا ينفع فيه القياس الكمي لتحديد النقطة الوسط، الذي هو الفضيلة بين رذيلتين، بل الأكثر نفعاً في سبيل تحديد دلالة التأصيل الذي نراه، هو الانطلاق من مرجعية يسهل الاتفاق عليها، والجمع بين ما يمكن أن يكون حقاً وخيراً وفضيلة في أي طرف، واستبعاد عناصر الفساد والشَّر منه، وبناء معادلة معرفية موزونة تبقى مفتوحة لإعادة التوازن إليها، كلما ازددنا علماً يستوجب التعديل والتصحيح.

المعادلة المعرفية في التأصيل الإسلامي:

إنَّ أيَّ معرفةٍ بشرية يُمْكِنُ للمسلم أن يتبنَّاها سوف تأتي من مصدريْن، هما: الوحي والكون، وعن طريق استخدام أداتَيْن، هما: العقل والحِسّ. والوحي هو القرآن الكريم، وهو المصدر المنشئ، والسُّنَّة الصحيحة هي البيان النَّبوي الملزم. أما الكون فيمكن أن نميز فيه ثلاثة عناصر: الكون المادي (أشياء الطبيعة وأحداثها وظواهرها)، والكون الاجتماعي (المجتمع البشري بشعوبه وقبائله وما تتمايز به من دول وأديان ولغات وقيم، وما أنجزته من علوم وتقنيات وثقافات وحضارات)، والكون النفسي (الشخصية الإنسانية بما تنطوي عليه: جسم وعقل وروح، وما تمتلكه من معارف ومهارات وانفعالات ... )

وأداتا المعرفة هما: الحِسّ مِن: سمع، وبصر، وغيرهما، والعقل بدلالاته المتنوعة مِن: ملكات الإدراك، والفهم في الدماغ، والقلب، واللب، والفؤاد.

ومن ثَمَّ فإنّ معرفة المسلم حول موضوع معين، تأتي عن طريق الجمع بين القراءتين (أو القراءة في المصدرين: الوحي والكون)، ونتيجة للجمع بين وظيفة كل من الأداتين (الحس والعقل). ويتعاون مصدرا المعرفة، كما تتعاون أداتا المعرفة، في تزويد المسلم بالمعرفة. لكن معرفة المسلم سوف تبقى على أية حال معرفةً بشريةً، تنسب إلى الإنسان، وهو يتصف بها. وهي أمر مختلف عن عِلْم الله سبحانه، وعِلْم الملائكة، وعِلْم الكائنات الأخرى. فعلمُ الله مطلقٌ، وعلمُ الإنسانِ نسبيٌ يزيد وينقص، ويصح ويخطئ. وعندما يُعطِي اللهُ الإنسانَ شيئاً من علمِهِ، "يُعَلِّمُكُم مَا لَمْ تَكونُوا تَعْلَمُون،" فإنّ ما يكتسبه الإنسانُ من هذا العلمِ يصبحُ جزءاً من العلم البشري، ويبقى محدوداً بدلالاته ومعانية بحدود الإدراك البشري.

ويكون التأصيل الإسلامي على هذا الأساس، لموضوع من الموضوعات المعاصرة، هو البحث عما يمكن أن يتعلق بهذا الموضوع في القرآن الكريم المصدرِ المنشئ، وفي السُّنَّة النَّبوية المصدرِ المبين، والاطلاع على ما أنشأه علماء المسلمين من علم ومعرفة حول الموضوع، والاطلاع على المراجع المناسبة للمعرفة المعاصرة حول الموضوع. وسوف تكون هذه المصادر مدخلات تتحاور في عقل المسلم، فقد توجه نصوصُ القرآن والسُّنَّة نظرَ المسلم إلى التأمل في الموضوع لفهم بعض جوانبه، وقد تفيد المعرفةُ المعاصرة عقلَ المسلم المعاصر، في تأمّل دلالات هذه النصوص، واكتشاف بعض المعاني التي لم تَرِد في كتابات العلماء المسلمين من قبلُ،"فكم ترك السابق للاحق." وربما تصحِّحُ بعضَ ما كانوا قد وصلوا إليه؛ إذْ ليس كلُّ ما ورد في كتابات السابقين من البشر صحيحاً. وسوف يتمكن الباحث المسلم من رفض بعض معطيات المعرفة المعاصرة، والحكم على بطلانها؛ لأنها تتناقض مع القيم العليا والمقاصد العامة التي جاء من أجلها الإسلام، في حدود الفهم البشري لها في عصر معين أو جيل معين. وقد يقود هذا التناقض إلى مزيدٍ من البحث، لا يلبثُ أن يكشفَ عن جوانب التناقض الداخلي في بنية المعرفة نفسِها. وربما يتمكن الباحث المسلم من قبول بعض هذه المعطيات؛ لأنها نتيجة من نتائج الاستجابة المُلِحة لدعوة القرآن الكريم للإنسان، للسير، والنظر، والبحث، والتَّدَبُّر. وقد تكون بعض معطيات المعرفة بحاجة إلى شيء من التحديد أو التكييف أو التعديل. وكل هذه الاحتمالات ممكنة؛ إذ تحدث كل يوم، وهي ظاهرة طبيعية في تقدم العلم ونمو المعرفة، وفي كل يوم يكتشف الإنسان من المعرفة ما ينقض شيئاً مما كان لديه من الحقائق القارَّة لعقود أو قرون.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير