معذرة يا كرام فأنتم تعلمون أن الشمس تجهر العين، فأعود وأقول: من تلك الأسولة الخطيرة:
1ـ مايقع على سمعك ويوجه لك من غر صغير لم يجر عليه القلم ولا يفرق بينه وبين اليلم، وربما لم يفارق البأبأة في النطق، من ذلك ما أذكره من غمر صغير يمد لي بسبب، سألني يوما عن ميت رآه بعد أن أدخل القبر، لماذا يهيلون عليه التراب؟ وإلى أين سيذهب؟ وهذه الجنة التي تقول مالذي فيها؟ وهل يمكنني اصطحاب دراجتي لأرتع في فيافيها ... ؟. في سلسلة من الأسولة تأخذ بك وبفصاحتك وعلمك كل مأخذ.
فإن أسكته بزجرك ونهرك له فهذا أمر خطير.
وإن أجبته فإما أن تكذب وإما أن تستخدم المعاريض.
وإن صدقته القول فتحت له بكل حرف يسمعه منك ألف سؤال يجف له الجريض.
فكن من هؤلاء الصبية على حذر، وإياك من الكذب الفاضح أو الصدق الناصح، ولكن كن بين بين، وافزع للمعاريض ففيها مندوحة عن المين، واعلم أنه تصبب عرقي في محاورة هذا الغمر الغرير، فبعد أن ظننت أني أتيت على كل مالديه , تنفست الصعداء للنجاة من نظرات حندرتيه،،، رفع بطرفه إلي قائلا: وهو في غاية السرور منتظرا للإجابة التي كان لايشك في أنها ستعقب مني بالموافقة، هلا أخذتني ودراجتي وذهبنا إلى تلكم الجنة؟!، فانتقض كل ما بنيت، وتمنيت أني لم أكن في جنازة ذلك الميت، أما علم هذا الغمر أني لازلت أأمل آمالا وأرجو نتاجها، وأني لازلت أريد أن أعب وأنهل من هذه الحياة الدنيا وأخوض غمارها.
لا تهيئ كفني ما مت بعدُ = لم يزل في خافقي برق ورعدُ
2ـ وسؤال آخر يأتيك من قريب حميم ماحمل القرطاس يوما ومادرى ما الدرس، تراه يزم الشفتين عند السؤال، ويقبض الوجنتين، وينتفخ منه المنخرين قائلا: (أخبرني وش بتسوي بالكتب هذي كلها؟ أنت بتقراها كلها؟ طيب ماهو حرام تجمعها بس كذا؟ ترى الله مايحب المسرفين وهذا منك تبذير مشين ... ؟) فإن أفصحت له عن حقيقة الأمر، وأخبرته أنه لايشترط من كل كتاب تقتنيه مطالعته على مدى العمر، فلربما تحتاجه الساعه ثم لاتعود له إلى قيام الساعة، ضحك من خفة عقلك وقام وهو ينفث عليك ويردد السلام، وإن لذت بالصمت وتظاهرت بالعي، أخذ بك في تنظيره للأصلح لمالك ومآلك، وأنه كان يكفيك القليل من الكتب، وبباقي المال تشتري أرضا أو تعمر دارا.
ألا ليت شعري، كيف لو علم أنه وهو يلقي عليك تلكم الكلمات، التي ظن وهو يلقيها أنها أتت منك على كل علة، أنك تردد وتتمتم ماقال شيخ من شيوخ الإسلام، وإمام من أئمة الفقه، ابن قدامة رحمه الله:
أبعد بياض الشيب أعمرمسكنا=سوى القبر إني إن فعلت لأحمق
يخبرني شيبي بأني ميت=وشيكا وينعاني إلي فيصدق
تخرق عمري كل يوم وليلة= فهل أستطيع رقع ما يتخرق
عندها سيجهش بالبكاء , ويتضرع بالدعاء، بأن يرفع الله عنك البلاء، وأن يجنبك الشقاء، ويريحك من هذا العناء، بنقلك إلى دار البقاء.
ولا تملك مع هذا إلا كما قال إمام العربية الخليل بن أحمد الفرهودي تـ 170رحمه الله في أبياته المشهورة، وإن اختلفت قصة ورودها، إلا أن المعاناة كانت واحدة:
لو كنتَ تعلم ماأقول عذرتني=أو كنتُ أجهلُ ماتقولُ عذلتكَ
لكن جهلتَ مقالتي فعذلتني =وعلمتُ أَنَّك جاهلٌ فعذرتكَ
فمن آتاه الله علما فليحمد الله ويشكره، ويعرف منّة الله عليه بأن أراد به خيرا وفضّله على كثير ممن خلق تفضيلا، وأن سلك به مسلك العلماء وطلابه، وجنبه مزالق الجهل وأربابه.
تتميم:
كان هناك أحد الصالحين توفي من سنين رحمه الله رحمة واسعة، فقد كان من التالين لكتاب الله آناء الليل وأطراف النهار , ففي سنة من السنين سألته عن ختمه للقرآن في رمضان من ذلك العام، فأخبرني أنه ختمه أكثر من عشرين ختمة، وكان من دأبه أن يختم القرآن في كل أسبوع مرة أو مرتين، ولا ينام حتى يصلي ركعتين، يقرأ في كل ركعة بجزء أوجزأين، فضلا عن قيام آخر الليل الذي عرف به حتى توفاه الله، ومع أنه لم يكن من طلاب العلم الذين يأتون العلم من بابته، فقد كان من القراء لكثير من الكتب على عادة الصالحين من غير طلاب العلم في وقت مضى (2)، أهديته مرة الزاد لابن القيم، ثم لقيته بعد أيام فأخبرني أنه أتى عليه كله وناقشني في مواطن منه، ثم أعطيته تاريخ ابن كثير فصنع به ماصنع بالزاد، وكم كانت تعجبه كتب عبدالعزيز
¥