[قال القرطبي] ولا يشك الواقف على هذا التاريخ وهذه الوفاة أنها ليست مما أنزل الله على موسى ولا مما كتبها موسى عن نفسه وإنما هي من إثبات من أراد أن يثبتها بعد وفاة موسى بزمان ويدلك على ذلك قوله ولم يعرف إنسان موضع قبره إلى اليوم, يريد به اليوم الذي كتب فيه هذا. وهذا بين عند المنصف, ومع بيانه فليس أحد من اليهود والنصارى فيما أعلم يقول إن التوراة زيد فيها شيء بعد موسى, ولا يفرق بين هذا الكلام وغيره بل هي كلها عندهم كلام الله, وهذا جهل عظيم, وخطب جسيم. فهم بين أمرين إما أن يقولوا إن هذا الكلام هو مما كتبه الله لموسى وأخبر به موسى أو يقولوا إنه ليس مما أخبر الله به موسى ولم يخبر به موسى.
فإن قالوا الأول كذبه مساق الكلام فإن المفهوم منه على القطع أنه كتب بعد وفاة موسى بزمان.
وإن قالوا بالقول الآخر قيل لهم فلأي شيء خلطتم (ص188) كلام الله بكلام غيره وأجريتموهما في نسق واحد وزدتم على كلام الله ولم تشعروا بذلك بل نسبتم كل ذلك إلى أن الله أنزله. وإذا جاز زيادة مثل هذا ولم يتحرز منه جاز أن يكون كل حكاية فيها لا يصح نسبتها إلى الله, زائدة ولا سيما الحكايات الركيكة التي تحكى فيها عن الأنبياء التي لا يليق ذكرها بسفلة الناس وغالب الظن ولا يعلم الغيب إلى الله تعالى أن السفر الأول الذي هو سفر البدء والأنساب مما زيد على كلام الله تعالى ولم يشعروا بزيادته.
[استدلال للقرطبي كرره من بعده نقاد الكتاب المقدس في أروبا مثل اسبينوزا]
ومما يدل أيضا على هذا المعنى أن كثيرا مما يجيء فيها:" وكلم الرب موسى وقال له اقبض حساب بني جرشون" [العدد: 4:21] , "وكلم الرب موسى وقال له كلم بني إسرائيل" [العدد:15: 1 - 2] ومثل هذا كثير.
وهذا يدلك أنه ليس مما قاله الرب جل ذكره لموسى ولا مما قاله موسى لهم, أعني لفظ "وكلم الرب موسى وقال له", وما أشبهه من لفظ الحكاية عنه وإنما هو شيء حكى عنه بعد انقراضه وأضيف إلى كلام الله ثم لا يعرفون من الحاكي وإذا جاز مثل هذا ولا يشعرون به جاز أن يكون أكثرها مغيرا ومبدلا وليس من كلام الله ولا من كلام موسى ولا يشعرون به ومن وقف عليها متتبعا لهذا المعنى قطع بأنها زيد فيها ما ليس منها وعند انكشاف الغبار تتبين أفرس تحتك أم حمار. (ص189).
[بيان عدم تواتر التوراة]
وأما بيان أنها ليست متواترة فهو:
(1) أن اليهود على بكرة أبيهم يعرفون ولا ينكرون أن التوراة إنما كانت طور مدة ملك بني إسرائيل عند الكوهان الأكبر الهاروني وحده وعنه تلقيت ولا ينكر ذلك منهم ولا منكم إلا مجاهر بالباطل.
(2) وكذلك ما يحكى من قتل بخت نصر جميع بني إسرائيل وإحراقه كتب التوراة حيث وجدت وإتلاف ما كان بأيديهم حتى لم يترك منهم إلا عددا يسيرا لا يحصل بخبرهم العلم وكان قد أجلاهم إلى بابل وهدم البيت, أو لعله كان الباقي منهم عددا كثيرا إلا أنهم لم يكونوا كلهم يحفظونها بل كانوا عددا يسيرا لا يحصل العلم بقولهم وكان هذا كله قبل المسيح بخمس مائة سنة تقريبا.
(3) وكذلك واقعة طيطش بن شبشان التي كانت بعد المسيح إلى أربعين سنة إذ فرقوا التفرقة التي هم اليوم عليها وهذا أيضا من المعروف عند الجميع بحيث لا ينكره إلا مكابر مجاهر. وهذه الأمور كلها مما تقدح في النقل الذي يدعونه متواترا.
ثم نقول هذه الأمور المذكورة إن وافقوا على وقوعها فقد اعترفوا بعدم التواتر فإن من شرط خبر التواتر أن ينقله العدد الكثير الذي تحيل العادة عليهم التواطؤ على الكذب والغلط عن عدد مثله هكذا ولا ينقطع, فإن رجع الخبر إلى عدد لا تحيل العادة عليهم الكذب لم يحصل بذلك الخبر العلم إذ لا يكون متواترا. وإن لم يوافقوا على وقوع هذه الوقائع هكذا لم يقدروا على جحد أصلها وإذا اعترفوا بأصلها لم يقدروا أن ينكروا إمكان وقوع ما يعترفون بأصله.
[بيان وقوع التحريف في التوراة]
وأما بيان التحريف فيها فهو:
(1) أن اليهود تعترف بأن سبعين كوهانا اجتمعوا على تبديل ثلاثة عشر حرفا من التوراة وذلك بعد المسيح في زمان القياصرة, ومن اجترأ على تبديل حرف من كتاب الله وتحريفه فلا يوثق بالذي في يده مما يدعى أنه كتاب الله لعدم الثقة به ولقلة مبالاته بالدين وأيضا فلعله قد حرفه كله أو أكثره.
¥