(2) وكذلك يقرون ولا ينكرون أن طائفة منهم يقال لهم السامرية حرفوا التوراة تحريفا بينا كثيرا والسامرية يدعون عليهم مثل ذلك التحريف وكذلك النصارى أيضا يدعون على اليهود أنهم حرفوا في التوراة التاريخ ويزعمون أنهم نقصوا من تاريخ آدم صلى الله عليه وسلم ألف سنة ونحو المائتين.
وهذه احتمالات توجب على العاقل التوقف فلا يدعي حصول العلم بنقل التوراة مع انقداح هذه الممكنات إلا مجاهر متعسف.
[اعتراض لأهل الكتاب على التحريف]
فإن قيل كيف يصح أن يقال هذا وقد كان الأنبياء بعد موسى عليه السلام يحكمون بالتوراة ويرجعون إليها واحدا بعد واحد إلى زمن يحيى وعيسى ثم بعد ذلك تناقلها النصارى كما تناقلها اليهود خلفا عن سلف إلى اليوم؟ وإن جاز تطرق التحريف إلى ما هذا سبيله فيلزم عليه أن يحكم الأنبياء بالباطل, ويلزم عليه أيضا أن يقروا على الباطل غيرهم وهذا كله باطل على الأنبياء ويلزم عليه أيضا أن لا يحصل العلم بخبر متواتر ولا يوثق بكتاب يدعى أنه جاء عن نبي.
[جواب القرطبي]
فنقول وبالله التوفيق, إنا لم نعين لوقوع التحريف فيها زمانا ولا عينا من حرف منها شيئا ولا من ألحق بها شيئا فيحتمل أن يقع التحريف فيها قبلهم (يعني الأنبياء) أو بعدهم وإنما أبدينا تلك الاحتمالات ليُعلم أن الذي في نفوسكم من الثقة بها إنما هو اعتقاد جزم وليس بعلم.
ومما يدل على قبول تلك الاحتمالات وأنها قادحة في دعوى العلم سلامتها أنها لم تَقِرَّعلى ما تلقيت من موسى بل زيد فيها مالم يتلق عن موسى مثل الذي حكيناه من ذكر وفاته وحزن بني إسرائيل وحكاية قول كلم الله موسى وهذا يعلم منه على القطع أن الله لم يقله لموسى ولا موسى قاله عن نفسه يعلم ذلك من وقف عليه وتتبعه بضرورة مساق الكلام ولا بد. فالذي زاد ذلك لعله الذي وقع الخلل من جهته.
وأما ما ذكرتم من حكم الأنبياء بها فليس فيه حجة لإمكان أن تُنَازَعُوا في قولكم: "كانوا يحكمون بها", بل لعلهم كانوا يحكمون بما كان الله يعلمهم بما يوافق شريعة موسى ولا يخالفها, ولو سلمنا أنهم كانوا يحكمون بها فنقول كل شيء حكم به الأنبياء من التوراة فليس بمحرف, وأما ما لم يحكموا به منها فلعله الذي حُرِّفَ, مثل الأخبار التي حكيناها ونحكيها إن شاء الله تعالى.
[اعتراض لهم ثان وجوابه]
فإن قيل فيلزم منه أن يُقر الأنبياء على الخطأ ويتحدثوا بالكذب فإنهم كانوا يتحدثون بها. قلنا ليس بكاذب من حكى شيئا يعتقد صحته لا يتعلق به حكم الله تعالى وإن كان ذلك الخبر في نفسه مخالفا لما في الوجود ... وإنما الكاذب الذي يخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه من العلم بذلك وهو حد الكذب عندنا وحقيقته, وهذا إنما يجوز في حكاية الأخبار التي لا يتعلق بها حكم وأما ما تعلق به حكم منها فلا يجوز ذلك إذ الأنبياء معصومون فيما يبلغونه من الأحكام عن الله تعالى.
[رفض القرطبي للنصوص التوراتية التي تنسب للأنبياء ارتكاب الفواحش]
وإنما قلنا هذا حذرا من أن ننسب إلى الله تعالى ما لا يليق بجلاله أن ينزله في كتابه من الفواحش والفجور التي حكوها في التوراة وادعوا أنه فيها مسطور مع أنه ليس في ذكرها فائدة بل هي بكل ضلالة عائدة وكذلك ننزه موسى والأنبياء بعده صلوات الله عليهم عن ذلك الكلام الغث الركيك الذي لو حكى مثله عن بعض السفلة لأنف منه واستحى منه ولما كان ينبغي لعاقل أن يلتفت ويصغى إليه, ولكان يجب عليه أن يعرض عنه وينكره إذا سمعه هذا إذا كان محكيا عن لسفلة فكيف إذا حكاه الله عن نفسه أو عن خيرته من خلقه الذين برأهم الله عن الكبائر والنقائص التي تناقض نبوتهم فهم أكرم الخلق عليه وأحظاهم لديه ... والقائل بوقوع هذا مستهزئ مفتر على الله وسننقل عن بعض ما حكوا في التوراة.
ثم نقول لو سلمنا أنها لم تحرف في زمان الأنبياء لأمكن أن نقول فلعله حرف بعدهم وذلك بعد وقعة طيطش حيث أفناهم, والذين تنصروا منهم عدد يسير لا تقوم الحجة بقولهم. وإن قلنا إنهم كانوا عددا كثيرا, فلم يكن كل واحد منهم ممن يحفظها ولا يضبطها. ثم نقول للنصارى إن أنكرتم أن يكون شيء من التوراة حرف فلأي شيء تقولون إن اليهود حرفوا في التوراة في نسب آدم ونقصوا منه؟ وإذا جاز ذلك في نسب آدم جاز في غيره, وهذا بين.
¥