[قلت: أقدم من جاء بهذا الجواب الذي شرحه ابن تيمية هو أبو الهذيل العلاف (ت.235هـ) كما تجده في نص المناظرة التي نشرناها في الملتقى المفتوح من هذا الموقع, وقد تكرر استعمالها لدى ابن حزم والجويني الطرطوشي]
(الوجه الثالث) ومن تمام ذلك أن يقول المسلم نعم أنا أقر بنبوة موسى والمسيح وأن التوراة والإنجيل كلام الله لكن يمتنع عقلا الإقرار بنبوة واحد من هؤلاء دون نبوة محمد فإن البراهين والآيات والأدلة الدالة على صدق موسى والمسيح تدل على نبوة محمد بطريق الأولى فلو انتقضت تلك الأدلة لزم فسادها وأن لا أصدق بأحد من الأنبياء وإن كانت حقا لزم تصديقهم كلهم فلزم إما أن نصدقهم كلهم وإما أن نكذبهم كلهم ولهذا كان من آمن ببعض وكذب ببعض كافرا.
(الوجه الرابع) ومن الأجوبة للمسلمين أن يقولوا نحن نصدق الأنبياء المتقدمين في كل ما أخبروا به لكن من نقل عنهم أنهم أخبروا بما يناقض خبر محمد صلى الله عليه وسلم فلا بد له من مقدمتين:
1) ثبوت ذلك اللفظ عن الأنبياء.
2) والعلم بمعناه الذي يُعلم أنه مناقض للمعنى الذي علم أن محمدا صلى الله عليه وسلم عناه.
ثم العلم باللفظ يحتاج مع الخطاب بغير ألسن الأنبياء العربية- سواء كانت عربية أو رومية أو سريانية أو قبطية- إلى أن يُعرف أن هذا اللفظ الذي ترجم به لفظه مطابق للفظه, ويمتنع ثبوت المقدمتين لأن في ثبوتهما تناقض الأدلة العلمية, والأدلة العلمية لا تتناقض.
الطريق الثاني [في الجواب على اعتراض أهل الكتاب]:
أن يقول المسلمون ما تذكرونه من المنقول عن الأنبياء مناقِضَةً لما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم أمورٌ لم تُعلم صحتها, فلا يجوز اعتقاد ثبوتها والجزم بها, ولو لم يعلم أن محمدا أخبر بخلافها, فكيف إذا عُلم أنه أخبر بخلافها؟
وذلك أن العلم بثبوتها مبني على مقدمات:
أحدها: العلم بنبوتهم وهذا ممتنع مع تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم.
والثانية: أنهم قالوا هذه الألفاظ, وهذا يحتاج إلى إثبات تواتر هذه الألفاظ عن الأنبياء, ولم يَثبت أنها تواترت عنهم.
والثالثة: أن معناها هو المعنى المُناقض لخبر محمد صلى الله عليه وسلم, ولم يُعلم ذلك.
وكل واحدة من هذه المقدمات تمنع العلم بثبوت هذه المعاني المناقضة لخبر محمد فكيف إذا اجتمعت, وهي تمنع العلم بصحتها ولو لم تناقض خبر محمد فكيف إذا ناقضته.
الطريق الثالث: طريقُ من يُبين أن ألفاظ هذه الكتب لم تتواتر ويثبتون ذلك بانقطاع تواتر التوراة لما خرب بيت المقدس وانقطاع تواتر الإنجيل في أول الأمر.
الطريق الرابع: طريق من يبين أن بعض ألفاظ الكتب حُرفت ويقيم الأدلة الشرعية والعقلية على تبديل بعض ألفاظها.
الطريق الخامس: أن يبين أن الألفاظ التي بأيديهم لا تناقض ما أخبر به محمد بل تدل على صدق محمد ويتكلم على تفسير تلك الألفاظ بأعيانها, وهذه الطريق يسلكها من لا ينازع في ثبوت الألفاظ من المسلمين.
وأما الجمهور الذين يقولون بتبديل هذه الألفاظ فيسلكون هذه الطريق ويسلكون أيضا بيان عدم تواتر الألفاظ بل بيان التبديل في ألفاظها. ومن حجة الجمهور الذين يمنعون أن تكون جميع ألفاظ هذه الكتب المتقدمة- الموجودة عند أهل الكتاب- منزلة من عند الله ... ويقولون إنه وقع التبديل في بعض ألفاظها, أو يقولون إنه لم يُعلم أن ألفاظها منزلة من عند الله فلا يجوز أن يُحتج بما فيها من الألفاظ في معارضة ما عُلم ثبوته, أنهم قالوا:
التوراة والإنجيل الموجودة اليوم بيد أهل الكتاب لم تتواتر عن موسى وعيسى عليهما السلام.
أما التوراة: فإن نقلها انقطع لما خرب بيت المقدس أولا وأُجلى منه بنو إسرائيل, ثم ذكروا أن الذي أملاها عليهم بعد ذلك شخص واحد يقال له عزرا, وزعموا أنه نبي- ومن الناس من يقول إنه لم يكن نبيا- وأنها قوبلت بنسخة وجدت عتيقة, وقد قيل إنه أحضرت نسخة كانت بالمغرب وهذا كله لا يوجب تواتر جميع ألفاظها ولا يمنع وقوع الغلط في بعضها كما يجري مثل ذلك في الكتب التي يلي نسخها ومقابلتها وحفظها القليل, الاثنان والثلاثة.
وأما الإنجيل: الذي بأيديهم فهم معترفون بأنه لم يكتبه المسيح عليه السلام ولا أملاه على من كتبه وإنما أملوه بعد رفع المسيح متى و يوحنا وكانا قد صحبا المسيح ولم يحفظه خلق كثير يبلغون عدد التواتر ومرقس ولوقا وهما لم يريا المسيح عليه السلام, وقد ذكر هؤلاء أنهم ذكروا بعض ما قاله المسيح وبعض أخباره وأنهم لم يستوعبوا ذكر أقواله وأفعاله. ونقل اثنين وثلاثة وأربعة يجوز عليه الغلط لا سيما وقد غلطوا في المسيح نفسه حتى اشتبه عليهم بالمصلوب, ولكن النصارى يزعمون أن الحواريين رسل الله مثل عيسى بن مريم وموسى عليهما السلام وأنهم معصومون وأنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل وأن لهم معجزات, وقالوا لهم هذه التوراة وهذا الإنجيل ويقرون مع هذا بأنهم ليسوا بأنبياء فإذا لم يكونوا أنبياء فمن ليس بنبي ليس بمعصوم من الخطأ ولو كان من أعظم أولياء الله ولو كان له خوارق عادات. (الجواب الصحيح 1/ 350 - 356).
وللحديث بقية في الحلقات المقبلة إن شاء الله وننتظر أسئلتكم واستفساراتكم لننشط في البحث أكثر