أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون] (المؤمنون:51 - 53) وإنما يقع النسخ في بعض الشرائع كما يقع النسخ في شريعة الرسول الواحد وحينئذ فيعلم أن كل ما ينقل عن الأنبياء المتقدمين مما يناقض ما علم من أخبار محمد فهو باطل سواء كان:
(أ) اللفظ نفسه باطلا لم يقله ذلك النبي.
(ب) أو قد قال لفظا وغلط المترجمون له من لغة إلى لغة.
(ت) أو كان اللفظ وترجمته صحيحين لكن وقع الغلط في معرفة مراد ذلك النبي بذلك الكلام.
[شروط لابد منها للاحتجاج بالألفاظ المنقولة عن الأنبياء]: فإن كل ما يحتج به من الألفاظ المنقولة عن الأنبياء- أنبياء بني إسرائيل وغيرهم- ممن أرسل بغير اللغة العربية لا بد في الاحتجاج بألفاظه من هذه المقدمات:
- أن يعلم اللفظ الذي قاله.
- ويعلم ترجمته.
- ويعلم مراده بذلك اللفظ.
والمسلمون وأهل الكتاب متفقون على وقوع الغلط في تفسير بعض الألفاظ وبيان مراد الأنبياء بها وفي ترجمة بعضها فإنك تجد بالتوراة عدة نسخ مترجمة وبينها فروق يختلف بها المعنى المفهوم وكذلك في الإنجيل وغيره.
فهذا الطريق في الجواب طريق عام لكل من آمن بمحمد وشهد أنه رسول الله باطنا وظاهرا يخاطب به كل يهودي ونصراني على وجه الأرض وإن لم يكن عارفا بما عند أهل الكتاب فإنه لا يقدر أحد من أهل الأرض يقيم دليلا صحيحا على نبوة موسى وعيسى وبطلان نبوة محمد عليهم السلام فإن هذا ممتنع لذاته بل ولا يمكنه أن يقيم دليلا صحيحا على نبوة أحدهما إلا وإقامة مثل ذلك الدليل أو أعظم منه على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أولى وحينئذ فلا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يحتج بشيء من المنقولات عن الأنبياء المخالفة لما ثبت عن محمد سواء أقر بنبوته أو أنكرها بل إن احتج بشيء مما نُقل عن محمد صلى الله عليه وسلم بُيِّن له بطلان احتجاجه به وأنه حجة عليه لا له.
... فإن المسلمين لا يطعنون في نبوة أحد من الأنبياء المعروفين وإنما يطعنون في أنهم أخبروا بما يخالف خبر محمد صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لا يثبت إن لم يثبت اللفظ والترجمة وتفسير اللفظ وهذه المقدمات يمتنع أن تقوم على شيء يخالف خبر محمد صلى الله عليه وسلم لا جملة ولا تفصيلا.
فأهل الكتاب يُطَالَبُون فيما يُعَارِضُون به بثلاث مقدمات:
- أحدها: تقدير أن أولئك صادقون ومحمد كاذب.
- والثاني: ثبوت ما أتوا به لفظا.
- والثالث: معرفة المراد باللفظ ترجمةً وتفسيرا.
وإن قال الكتابي للمسلم أنت توافقني على نبوة هؤلاء المتقدمين إجابة المسلم بوجوه: (الوجه الأول) منها أن يقول إني لم أوافقك على نبوة واحد منهم مع التكذيب بمحمد بل دين المسلمين كلهم أنه من آمن ببعض الأنبياء وكفر ببعض فهو كافر فكيف بمن كفر بمن هو عند المسلمين أفضل الأنبياء وخاتمهم, بل قد يقول له أكثر المسلمين نحن لم نعلم نبوة أولئك إلا بأخبار محمد صلى الله عليه وسلم أنهم أنبياء فلو قدحنا في الأصل الذي قد علمنا به نبوتهم لزم القدح في نبوتهم والفرع إذا قدح في أصله دل على فساده في نفسه ... (الوجه الثاني) وكذلك إذا قال له الكتابي قد اتفقنا على تصديق موسى والتوراة والمسيح والإنجيل قال له المسلم إنما وافقتك على تصديق موسى وعيسى اللَّذَيْن بَشَّرَا بمحمد كما أخبرنا به محمد عن الله حيث قال الله تعالى: [ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر] الآية (سورة الأعراف:156 - 157) وقال تعالى: [وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد] (سورة الصف: 6) إلى أمثال ذلك, فأما الإيمان بموسى الذي ذكر أن شريعته مؤبدة لا ينسخ منها شيء أو بمسيح ادعى أنه الله أو أن الله اتحد به أو حل فيه, ونحو ذلك مما يدعيه أهل الكتاب في الرسولين والكتابين ويخالفهم فيه المسلمون, فهذا من موارد النزاع لا من مواقع الإجماع, فليس لأحد من أهل الكتاب أن يحتج على أحد من المسلمين بموافقته له على ذلك.
¥