وبعد أن يذوق المؤمن في عرفات، من خلال دعائه، وإقباله، واتصاله، روعة اللقاء، وحلاوة المناجاة، ينغمس في لذة القرب، عندئذ تصغر الدنيا في عينيه، وتنتقل من قلبه إلى يديه، ويصبح أكبر همه الآخرة فيسعى إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر، وقد يُكشف للحاج في عرفات أن كل شيء ساقه الله له مما يكرهه، هو محض عدل، ومحض فضل، ومحض رحمة، ويتحقق من قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216)
وبعد أن يفيض الحاجُّ من عرفات، وقد حصلت له المعرفة واستنار قلبه، وصحت رؤيته يرى أن السعادة كلها في طاعة الله، وأن الشقاء كله في معصيته عندئذ يرى عداوة الشيطان، وكيف أنه يَعِدُ أولياءه بالفقر إذا أنفقوا، ويخوفهم مما سوى الله، إذا أنابوا وتابوا، ويعدهم، ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، قال تعالى: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (إبراهيم: 22)
عندئذ يُعبِّر الحاج عن عداوته للشيطان تعبيراً رمزياً برمي الجمار، ليكون الرمي تعبيراً مادياً، وعهداً موثقاً في عداوة الشيطان، ورفضاً لوساوسه وخطراته.
يقول الإمام الغزالي: " اعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى في العقبة، وفي الحقيقة ترمي بها وجه الشيطان، وتقصم ظهره، ولا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله تعالى ".
وحينما يتجه الحاج لسوق الهدي، ونحر الأضاحي، وكأن الهدي هدية إلى الله تعبيراً عن شكره لله على نعمة الهدى، التي هي أثمن نعمة على الإطلاق، وكأن ذبح الأضحية ذبح لكل شهوة، ورغبة لا تُرضي الله، وتضحية بكل غالٍ ورخيص، ونفس ونفيس في سبيل مرضاة رب العالمين، قال تعالى: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (الحج: 37)
ثم يكون طواف الإفاضة تثبيتاً لهذه الحقائق، وتلك المشاعر، ثم يطوف طواف الوداع لينطلق منه إلى بلده إنساناً آخر استنار قلبه بحقائق الإيمان، وأشرقت نفسه بأنوار القرب، وعقد العزم على تحقيق ما عاهد الله عليه، وإذا صحَّ أن الحج رحلة إلى الله، فإنه يصحُّ أيضاً أنه الرحلة قبل الأخيرة، لتجعل الرحلة الأخيرة مُفضية إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
وبعد أن ينتهي الحجاج من مناسك الحج يتجهون إلى المدينة المنورة، التي هي من أحب بلاد الله إلى الله، يتجهون إليها لزيارة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم
، فالرجل حينما يظلم نفسه بمعصية ربه، من خلال خروجه عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وجب عليه أن يستغفر الله، فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عين طاعة الله، ورفض سنة النبي صلى الله عليه وسلم عين معصية الله وإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين إرضاء الله، يستنبط هذا من إفراد الضمير في قوله تعالى عند كلمة يرضوه
: (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ) (التوبة: 62) هكذا بضمير المفرد.
ولا أدل على ذلك من قول الله تعالى: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء: 80)
ومن قوله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران: 31)
ولعل سرَّ السعادة التي تغمر قلب المسلم حينما يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما إن يرى معالم المدينة حتى يزداد خفقان قلبه، وما إن يبصر الروضة الشريفة حتى يجهش بالبكاء، وعندئذ تُصبح نفس الزائر صافية من كل كدر، نقية من كل شائبة، سليمة من كل عيب، منتشية بحبها له صلى الله عليه وسلم وقُربها من سنته
رُوي أن بلالاً رضي الله عنه سافر إلى الشام، وطال به المقام، بعد وفاة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، ولقد رأى وهو في منامه وهو بالشام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: " ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني "؟ فانتبه حزيناً، وركب راحلته، وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده كثيراً.
فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما وجعل يضمهما، ويقبلهما فقالا: نشتهي أن نسمع أذانك، الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصرّا عليه، فصعد وعلا سطح المسجد، ووقف موقفه الذي كان يقفه.
ولما بدأ بقوله: الله أكبر .. وتذكر أهل المدينة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجَّت المدينة، وخرج المسلمون من بيوتهم فما رأيت يوماً أكثر باكياً وباكيةً في المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم.
لقد صدق أبو سفيان رضي الله عنهم حينما قال: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً .. وهذه الحقيقة ينبغي أن تنسحب على كل مؤمن إلى يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين)) [رواه البخاري ومسلم44]