نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه. د. محمد الدسوقي
تمهيد
يمثل علم أصول الفقه أصالة الفكر الإسلامي أصدق تمثيل. فهذا العلم هو عماد الاجتهاد وبه قوام منهج الاستنباط. وقد سبق به فقهاء الإسلام فقهاء القانون في العالم كله، إذ لم تعرف المكتبة القانونية أصولاً للقانون إلا في العصر الحديث، في حين عرفت المكتبة الإسلامية تراثاً منهجياً فريداً للبحث الفقهي نما وتكامل على مدى ثلاثة عشر قرناً، وتبلور في إطار علم (أصول الفقه). على أن هذا التراث المنهجي تأثر، قوة وضعفاً، بما تأثرت به الحضارة الإسلامية عبر التاريخ. ولذلك كان في العصور الأولى قوياً يتناول الموضوعات في دقة وتمحيص. وعلى العكس، غلب عليه في العهود المتأخرة الجدل اللفظي، وتشقيق القول في مسائل فرعية، فضلاً عن الإيجاز الذي يشبه الألغاز أو الإعجاز على حد تعبير بعض الكتاب المحدثين، ثم الخوض في قضايا لا صلة لها بعلم الأصول، مما نأى بهذا العلم عن الغرض الأساسي لدراسته.
وقد آل كل هذا التراث إلى الأمة في عصرها الحاضر وهي تحاول أن تستعيد مكانتها وحضارتها، وتنفض عن كاهلها آثار الاحتلال بشقيه العسكري والفكري. وأقبل العلماء على ذلك التراث، فنشروا قدراً كبيراً منه، واغترفوا من كنوزه ما مهد لهم طريق التأليف الأصولي وفق منهج لا يعرف الفضول أو شوائب الإيجاز المخل، والجدل اللفظي الممل.
ولكن جهود المحدثين في التأليف الأصولي لم تتجاوز نطاق الصياغة إلى الآراء وتحليلها والأخذ منها والرد عليها، وإن كان هناك سعي للترجيح بين رأي وآخر. ومن ثم اتسمت كل الدراسات الأصولية الحديثة بوحدة المضمون، فقد تكررت فيها التعريفات والتقسيمات والمسائل والشواهد، وأصبح التفاوت بينما مقصوراً على الكم والأسلوب والدقة في تناول الموضوعات دون النوعية والمحتوى فلا تفاوت بينها في هذا.
ولأن هذه الدراسات الأصولية الحديثة اقتصرت على التكرار والاجترار ولم تعد صالحة لتقديم المنهج الذي يكفل للاجتهاد حيوية وقوة وقدرة على مواجهة المشكلات بأسلوب علمي وعملي، نادى بعض المفكرين والعلماء المحدثين بتجديد علم الأصول وتطوير مباحثه حتى يؤدي هذا العلم مهمته كما ينبغي أن تكون.
والذي لا مراء فيه أن علم الأصول كما يدرَّس اليوم بالمنهج التقليدي في عرض القضايا لا يحقق الغرض من دراسته، فقد أضحت هذه الدراسة وسيلة للإلمام بالآراء وحفظ التعريفات والأدلة دون الخروج منها بتصوير منهجي ينير طريق الاجتهاد المعاصر أو يعين على سلوكه.
ولهذا رأيت أن موضوع تجديد علم الأصول من الموضوعات الجديرة بالبحث، لأنه يتناول قضية منهجية تتعلق بأسلوب الاستنباط الفقهي، والأمة في حاضرها تعاني اضطراباً في هذا الشأن، يشوه الدعوة إلى تطبيق الشريعة، ويثير حولها الشبهات.
وتقتضي دراسة موضوع التجديد لعلم الأصول التمهيد لها بالحديث -في إجمال- عن نشأة هذا العلم وتطوره، ثم يأتي الكلام على ضرورة التطوير والتجديد وموقف بعض العلماء المحدثين منه، وأخيراً أهم الملامح العامة لهذا التجديد والتطوير.
وعليه تتكون الدراسة التي بين أيدينا من ثلاثة مباحث وخاتمة.
يعرض المبحث الأول لنشأة علم الأصول وطرف من تاريخه حتى العصر الحاضر في إجمال وإيجاز. أما المبحث الثاني فيتناول مفهوم التجديد، ومدى الحاجة إليه، وموقف العلماء منه. ويخصص المبحث الثالث لمجال التجديد في علم الأصول وفق ضوابط علمية تجعل من هذا التجديد وسيلة لنهضة فقهية رشيدة.
أما الخاتمة فقد اشتملت على أهم النتائج التي توصل إليها البحث وبعض التوصيات.
نشأة علم الأصول وتطوره:
إذا كان العلماء قد اختلفوا في تعريف علم الأصول، فإن كل التعاريف التي قال بها هؤلاء العلماء قديماً وحديثاً تدور ـ على ما بينها من تفاوت ـ في فلك أن هذا العلم هو: قواعد يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية5.
وتشمل هذه القواعد الأدلة الشرعية، وطرق الاستنباط منها، وبيان مراتب حجيتها، وتشمل الأحكام الشرعية ومن يخاطب بها، ومن هو أهل للاجتهاد، ومن ليس أهلاً له، فعلم الأصول -وفقاً لهذا- يرسم للفقيه المنهاج الذي يتبعه في استخراج الأحكام من أدلتها. ولهذا كان ميزاناً يضبط المجتهد في آرائه، ويتبين به الاستنباط الصحيح من الاستنباط الباطل.
¥