تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وما دام علم الأصول هو منهاج الفقيه المجتهد، فإن نشأته تكون ملازمة لنشأة الفقه، لأنه حيث يكون فقه، يكون حتماً منهاج للاستنباط. وقد استمد الفقه الإسلامي مع بداية الدعوة استمداداً مباشراً من الوحي الإلهي بنوعيه: القرآن الكريم والسنة النبوية.

ويتضمن الوحي -إلى جانب بيان الحلال والحرام من الأقوال والأفعال- المبادئ والقواعد الكلية التي تومئ إلى مقاصد الأحكام بوجه عام، ويشمل تلك الأصول التي تحض العقل على النظر الصحيح، وتضع شروطه وضوابطه تثبيتاً وتمحيصاً وتدقيقاً واستخداماً، لكل ما وهبه الإنسان من ملكات للمعرفة والعلم، حيث يقول تعالى: ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً? (الإسراء: 36).

وقد مثلت هذه القواعد والمبادئ والأصول، الأساس الراسخ الذي قام عليه صرح علم الأصول، الذي وضعت لبناته الأولى في عصر الصحابة، ثم تتابعت على بنائه وتطويره أجيال العلماء حتى تكامل هيكله وسمق بأصالته، وتفرد بخصائصه التي وجهت الحياة العلمية والفكرية ليس فقط في الإطار الإسلامي، وإنما في الحياة الثقافية الأوربية.

بدايات الفكر الأصولي:

لقد واجه الصحابة -بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد أن آمنت بالإسلام شعوب ذات ثقافات مختلفة وأعراف متباينة -قضايا متعددة ومشكلات معقدة ونوازل مستجدة، لم يعرفها عصر البعثة. فكان لا مناص من أن يتجه علماء الصحابة إلى الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية لتلك القضايا والنوازل والمشكلات. ولم يدع أحد أن القرآن والسنة نصا على أحكام كل المسائل الجزئية، ما طرأ منها عهد التنزيل وما يطرأ في المستقبل. فالنصوص -كما يقول الشهرستاني- متناهية والحوادث غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى8، لذلك اتسع مجال الاجتهاد في عصر الصحابة، وأصبح المصدر الثالث للفقه بعد الكتاب والسنة.

ولقد كان الصحابة يرجعون في اجتهادهم أولاً إلى كتاب الله تعالى، فإن وجدوا فيه نصاً ظاهراً تمسكوا به، وأجروا حكم الحادثة على مقتضاه وإن لم يجدوا فيه فزعوا إلى السنة، فإن روي لهم في ذلك خبر أخذوا به فإن لم يجدوا في الكتاب والسنة نصاً ينزلون على حكمه، اجتهدوا آراءهم، وحكّموا أفهامهم فيما يرونه أشبه بالمعروف من مقاصد الشريعة، وقواعدها العامة.

فالصحابة في اجتهادهم كانوا إذن على دراية وافية ببعض الضوابط والقواعد التي أخذوا أنفسهم بها في استنباط الأحكام، وقد عرفوا هذه الضوابط والقواعد من الكتاب والسنة، ومن روح التشريع ومبادئه الكلية. ولكنهم ما كانوا يطلقون عليها أسماء اصطلاحية أو عناوين فنية، وإنما كانت تجري منهم مجرى السجية والطبيعة والملكة الفطرية9.

ويشهد للصحابة بأنهم في اجتهادهم قد تقيدوا ببعض الضوابط والقواعد ما أثر عنهم من روايات ونصوص تبين بجلاء أنهم قاسوا واستحسنوا، وتوخوا المصالح، وراعوا الأعراف، وأخذوا بسد الذرائع، وعرفوا الإجماع، وآمنوا بأن الأحكام قد فرضت لعلل تقتضيها ومقاصد تؤدي إليها. ولا يسمح المجال بسرد مثل تلك المرويات والنصوص، فضلاً عن أنها معروفة ومتداولة في كثير من المصادر القديمة والحديثة.

وفي عصر التابعين شاعت تلك الضوابط التي تقيد بها الصحابة في اجتهادهم، جرى تداولها على ألسنة العلماء، وعرفتها محافلهم فزادت ونمت، وبدأت مفاهيمها تتحدد وتتبلور، وتأخذ طابع المصطلح العلمي في الفكر الأصولي. وقد نما الفقه في عصر التابعين نمواً عظيماً، توازياً مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية ومواكبة لطروء الحوادث وتكاثرها. وقد تعددت لذلك المدارس الفقهية التي انضوت، على الرغم من تعددها، تحت تيارين كبيرين هما تيار أهل الرأي وتيار أهل الأثر أو أهل الحديث. وقد أسهم النزاع بين الفريقين حول بعض القضايا الأصولية كالإجماع والعرف والقياس ومذهب الصحابي في بلورة هذه القضايا على أسس علمية، وإن ظلت غير مدونة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير