تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فقضايا علم الأصول -إذن- ليست كلها قطعية، وما هو قطعي منها كالكليات المنصوصة في الكتاب والسنة مثل (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)، (ولا تزر وازرة وزرة أخرى)، (وما جعل عليكم في الدين من حرج)، (وإنما الأعمال بالنيات) لا نزاع فيه ولا اختلاف حوله.

وإذا كان الشاطبي في المقدمة الأولى من المقدمات التي مهد بها لكتاب الموافقات قد قال: "إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة وما كان كذلك فهو قطعي"، فإنه قد قرر في خاتمة هذه المقدمة أن ما كان ظنياً يطرح من علم الأصول، "وأن ما يذكر مما ليس بقطعي فمبني على القطعي تفريعاً عليه، فيكون ذكره تبعاً."35

وعلق الشيخ عبد الله دراز على رأي الشاطبي هذا بأنه "رجوع عن قسم عظيم مما شملته الدعوى، ولكنه مقبول ومعقول، فإن من مسائل الأصول ما هو قطعي مجمع عليه، ومنها ما هو محل للنظر وتشعب الأدلة إثباتاً ورداً"، ثم أضاف: "على أنه بهذه الخاتمة التي طرح بها كثيراً من القواعد المذكورة في الأصول جزافاً دون تحديد لنوع ما يطرح، صار لا يعرف مقدار ما بقي قطعياً وما سلم فيه أنه ظني."36

والحاصل مما تقدم أن قضايا علم الأصول ومسائله ليست كلها قطعية، ومن ثم يكون الاجتهاد فيما ليس بقطعي من هذه المسائل والقضايا أمراً مطلوباً تفرضه سنة الحياة، وتقضي به صلاحية التشريع للتطبيق الدائم، وأن لكل ما يجدّ من نوازل حكماً في الشرع في كل زمان ومكان.

ولكن هل القضايا الظنية في علم الأصول في حاجة إلى نظر جديد واجتهاد فيها؟ وهل هذا العلم كما وصل إلينا لا يمد المجتهد بالمنهج الذي يعينه على الاستنباط واستخراج الأحكام كما ينبغي أن يكون في العصر الحاضر؟

إن بعض المعاصرين نقدوا علماء الأصول فيما كتبوا، ويكاد هذا النقد يدور في نطاق ما يأتي:

أولاً: عدم الحديث بتفصيل عن مقاصد الشريعة، والاكتفاء بالإشارة إلى هذا الموضوع في باب القياس عند تقسيم العلة بحسب مقاصد الشارع، بحسب الإفضاء إليها. وهذه المقاصد تعد الركن الثاني لاستنباط الأحكام الشرعية والركن الأول هو الحذق والتمهّر في اللغة العربية37.

ثانياً: الحديث عن مسائل كثيرة تعد من نوافل القول في علم الأصول أو لا مدخل لها في الغرض الذي من أجله وضع هذا العلم، كمسائل اللغات، أهي اصطلاح أو توقيف، وحكم الأشياء قبل الشرع، والإباحة أهي تكليف أم لا، ومسألة إن كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبداً بشرع قبل بعثته أو لا، وعربية جميع القرآن، والجدال حول القراءات الشاذة، والنزاع في مسألة شكر المنعم، والعناية الزائدة بالحدود والتعاريف والانشغال بمناقشتها، وذلك مما جعل علم الأصول -وبخاصة في العصور المتأخرة- ميداناً للجدل والمناظرة فيما هو شكلي أو لفظي وجعل العلماء يبتعدون بهذا العلم عن غايته والأغراض المقصودة منه، حيث مالوا بمباحثه إلى الفكر النظري دون الفكر التطبيقي38.

ثالثاً: عدم تحرير القول في النزاع الطويل في خبر الواحد، حتى يعول عليه في أخذ الأحكام دون خلاف في كثير من الشروط التي وضعها بعض الأئمة لظروف خاصة أملتها عليهم، وهي شروط كانت ما تزال موضع جدل ومصدر خصام بين المسلمين، وشغلاً شاغلاً للدارسين39.

وكذلك عدم تحرير القول في الإجماع ووضع الضوابط التي تجعل له دوراً فاعلاً في الاجتهاد ولا سيما في العصر الحاضر الذي تنوعت فيه المشكلات، بحيث تحتاج دراستها إلى عدد من التخصصات. فما جاء عنه في كتب الأصول ليس إلا فكراً نظرياً بحتاً لا يعرف التطبيق بحال من الأحوال في حياتنا المعاصرة40.

وللدكتور حسن الترابي41 رسالة صغيرة عنوانها تجديد أصول الفقه الإسلامي حاول فيها أن يصور حاجة المسلمين في العصر الحديث إلى إعادة النظر في مسألة منهج الاجتهاد الأصولي وأدواته وضوابطه، وقد جاء في مقدمة هذه الرسالة أن "العالم الإسلامي في حاجة إلى نهضة شاملة في كل المجالات تثور على الأوضاع التقليدية وتخلص العقلية الإسلامية والواقع الإسلامي من الجمود. ولا يمكن أن تقوم هذه النهضة على غير منهج، وهذا المنهج منهج أصولي لا يشتغل بالجزئيات دون النظر في مقاصد الدين الكلية ويرتبط بواقع الحياة حتى لا تصبح قضاياه مقولات نظرية عقيمة لا تثمر فقهاً حياً يجابه التحديات العلمية".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير