تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي الحقيقة ليست الدعوة إلى تجديد علم الأصول وليدة العصر الحديث، وإنما لها جذور تمتد إلى الماضي. فلأبي حامد الغزالي (توفي505ه) في المستصفى وشفاء الغليل إشارات تدل على أن طرفا من قضايا هذه العلم يحتاج إلى تحرير القول فيه. وجاء الشاطبي في الموافقات فنبه إلى أن في علم الأصول مسائل ليست منه، وأن الركن الثاني من أركان هذا العلم -وهو ركن المقاصد- لم يلق من علمائه الاهتمام الجدير به. ثم حاول الشوكاني (توفي1250ه) في إرشاد الفحول أن يتناول بالبحث علم الأصول على نحو جديد يوضح من الآراء الراجح من المرجوح، والسقيم من الصحيح، وما يصلح من هذا العلم للرد إليه، وما لا يصلح منه للتعويل عليه. وقد علل هذا بقوله: "ليكون العالم على بصيرة في علمه يتضح له بها الصواب، ولا يبقى بينه وبين درك الحق الحقيقي بالقبول الحجاب،"28 مضيفاً أنه لم يذكر في كتابه من المبادئ التي يذكرها المصنفون في هذا "إلا ما كان لذكره مزيد فائدة يتعلق به تعلقاً تاماً، وينتفع به فيه انتفاعاً زائداً."29

وقد تحصّل من عديد الدراسات والبحوث في تاريخ الأصول وتطور التأليف فيه، وكذلك بعض الكتابات في علم المقاصد، ما يؤكد أن علم الأصول كما انتهى إلينا في حاجة إلى أن يعاد النظر فيه.

وتبنت مجلة المسلم المعاصر في العدد الأول منها الدعوة إلى اجتهاد معاصر جريء يعتمد على أصول الإسلام ولا يغفل حاجات العصر، ولم تقتصر هذه الدعوة على الاجتهاد في فروع الفقه ومسائله الجزئية، بل شملت الاجتهاد في أصوله ومناهجه30.

ولقد اختلفت الآراء والاستجابات في هذا الشأن. فبعض الكتاب يرى أن أصول الفقه قطعية لا ظنية لأنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي. ومن ثم أصبح هذا العلم علماً مستقراً له حدوده التي صيغت من القواعد الأساسية التي انبنى عليها. ومن ناحية أخرى، تولد هذا العلم من الحاجة الماسة إلى قواعد ثابتة تحكم المعاملات الفقهية التي بدأت تزداد عدداً وتتجدد نوعاً بانتشار رقعة الدولة الإسلامية واحتوائها لشعوب وأقاليم متعددة متفاوتة في حضارتها وبيئاتها، فاستنبطت أحكام مناسبة لها. وعليه يخلص أصحاب هذا الرأي إلى أنه لا مجال للاجتهاد والتجديد في علم الأصول من حيث قضاياه ومبادئه. وقصارى ما يمكن أن يجتهد فيه هو إما إعادة تبويبه وصياغته، أو معاودة البحث في أدوات القياس ونحو ذلك مما يساعد على تنظيم العلم. فهو إذن اجتهاد مقصور على الشكل دون المضمون."31

وقد عارض هذا الرأي كتاب آخرون. فكون قضايا علم الأصول كلها قطعية قول غير صحيح على إطلاقه، وذلك يتضح من اختلاف أنظار القدماء من الأصوليين في مسائل كثيرة مثل المصالح المرسلة، والاستحسان، والاستصحاب، والعرف. وحتى القياس والإجماع، وإن أخذ بهما الجمهور، إلا أنّ هناك من ينازع في حجيتهما، فضلاً عن أن القواعد التي وضعها علماء الأصول لضبط الفهم والاستنباط من النص لم تسلم من الخلاف، كما في مسائل العام والخاص، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والمنطوق والمفهوم إلخ .. فضلاً عمّا تختص به السنة من خلاف حول ثبوت خبر الآحاد منها، وشروط الاحتجاج به، سواء أكانت شروطاً في السند أو في المتن32.

ويرى الشيخ محمد بن الطاهر بن عاشور (توفي 1393ه) أن من تمكن من علم الأصول "رأى رأي اليقين أن معظم مسائله مختلف فيها بين النظار، مستمر بينهم الخلاف في الفروع تبعاً للاختلاف في تلك الأصول، وإن شئت فقل قد استمر بينهم الخلاف في الفروع لأن قواعد الأصول انتزعوها من صفات تلك الفروع."33

وبعد أن يورد بعض الآراء لعلماء الأصول الأقدمين في هذا الشأن، يعقب الشيخ بن عاشور مبيناً أن سبب اختلاف الأصوليين في تقييد الأدلة بالقواطع يرجع إلى أنهم حاولوا أن يجعلوا أصول الفقه قطعية كأصول الدين السمعية، ولكن هؤلاء العلماء قد اختلفوا في معظم تلك الأصول مما يقضي بندرة ما هو قطعي منها34.

وما دامت مسائل كثيرة من علم الأصول مختلفاً فيها وليست قطعية، فإن الاجتهاد المعاصر يمكنه أن يرى فيها رأياً جديداً مادام لا يخرج عن المقاصد العامة للشريعة، وما دام يتغيا من ذلك أن يكون للأمة في حاضرها اجتهاد فعال يعتمد على أصول الإسلام ولا يغفل عن حاجات العصر.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير