إن الشاطبي في هذا النص فصل بين ما يعد من أساسيات علم الأصول، وما يعد خادماً لها، فهذه لا تدخل في الأصول، وإلا لأصبحت كل العلوم من جملة أصول الفقه.
وقد أورد أبو إسحاق بعد ذلك طائفة مما أدخله المتأخرون على أصول الفقه من مسائل كثيرة، وقد سبقت الإشارة إلى شيء من ذلك في هذا البحث، مضيفاً إليها ما افترضه علماء الأصول من مسائل لا ثمرة لها في الفقه، كمسائل التحسين والتقبيح العقليين44، فهي عنده عارية أيضاً، أي ليس من صميم علم الأصول.
وإذا كان الكتاب المعاصرون فيما كتبوا في علم الأصول قد تخلوا عن بعض ما ليس من هذا العلم، فإن كثيراً من تلك المسائل العارية ما زالت تتردد في مؤلفات هؤلاء الكتاب، كالحديث عن حروف المعاني45، وهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم متعبداً بشريعة سابقة، وهل كان عليه الصلاة والسلام وأمته بعد البعثة متعبدين بشرع نبي سابق، وهل الحسن والقبح من الصفات الذاتية للأفعال، بحيث يستقل العقل بإدراكها أولاً، فضلاً عن دراسة النص الشرعي دراسة تاريخية، وليس دراسة أصولية، أي دراسة تكشف عن خصائص هذا النص من حيث منهجه في تقرير الأحكام، والمبادئ العامة التي تحكم الاستنباط منه، فما يكتب عن هذا النص في كتب الأصول الحديثة أقرب إلى الدراسات القرآنية وعلوم الحديث منه إلى الدراسات الأصولية بمعناها الدقيق.
على أن إلغاء ما ليس من علم الأصول -وإن كان مفيدا له- ليس من باب التخفيف في دراسة العلم أو عدم الاكتراث بأهميته، وإنما من باب مراعاة أن لكل علم قضاياه الأساسية التي يجب أن تكون قبلة الباحثين، دراسة لها وإحاطة بها، فلا تشغلهم المسائل الثانوية أو الخادمة للعلم عن تلك القضايا التي هي صلب العلم، فالاهتمام بهذا المسائل الثانوية يبدو أنه يطغى على دراسة القضايا الأساسية، فلا تلقى حظها من البحث العلمي الوافي. وبذلك لا تكون الدراسة أصولية لأن تياراً جانبياً حول وجهتها إلى جداول فرعية، فنأت عن لجة البحر، ومن ثم لم تهتد إلى الغوص فيه لاقتناص لآلئه، واكتشاف أسراره وسبر أغواره.
وأما المقاصد فإن الحديث عنها في كتب الأصول غالباً ما يأتي ضمن الحديث عن الشروط التكميلية التي ينبغي أن تتوافر في المجتهد، على الرغم من أن فقه المقاصد وربط الاستنباط بها هو السبيل لاجتهاد صحيح، ومن هنا ذهب الشاطبي إلى أن درجة الاجتهاد لا تحصل إلا لمن اتصف بوصفين:46
أحدهما: فهم مقاصد الشريعة.
والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها، أي على فهمه للمقاصد في مراتبها الثلاث: الضروريات والحاجيات والتحسينات.
وفي شرحه لهذين الوصفين بيّن الشاطبي أن الشرط الثاني يعد كالخادم للشرط الأول، لأنه يتعلق بجملة من المعارف المحتاج إليها في فهم هذه المقاصد.
ويرى بعض الكتاب المحدثين47 أن هذه المعارف تشمل إجادة العربية والإحاطة بالنصوص التشريعية إحاطة تلم بها إلماماً تاماً، والخبرة الدقيقة بمشكلات الحياة العامة التي تتطلب حلاً شرعياً، ثم دراسة علم الأصول بوصفه المنهج العلمي للاجتهاد. وهذا الرأي يخرج المقاصد من علم الأصول ويجعل هذا العلم وسيلة من وسائل فهم المقاصد التي تدور التكاليف الشرعية كلها في فلكها، أو أن هذه التكاليف تتجه في جملتها إلى تحقيق المقاصد وجعلها واقعاً ملموساً في حياة الناس.
وهذا الرأي فضلاً عن كونه تعبيراً عما سار عليه علماء الأصول في الماضي، كان سبباً في عدم الاعتناء بالمقاصد في دراسة علم الأصول، والتعرض لها بصورة عابرة في باب العلة، أو عند الحديث عن المصلحة أو العرف والاستحسان.
وتجديد علم الأصول يقتضي منا ألا ننظر إلى المقاصد تلك النظرة التي تفصلها عن هذا العلم، وإن اتخذ وسيلة إليها فكل الأدلة النصية والعقلية تتوخى المقاصد وتهدف إليها، وما تغير الأحكام بتغير الأعراف والزمان والمكان إلا مظهر من مظاهر دوران هذه الأدلة في نطاق المقاصد الشرعية.
¥