تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن من المسلم به أن الله تبارك وتعالى لا يشرع لمجرد الرغبة في التشريع، ولا يشرع عبثاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما يشرع لمقاصد وغايات تحقق الخير للناس في المعاش والمعاد. وقد نفقه الغاية أو الحكمة من تشريع ما، وقد يغيب عنا ذلك، ومع هذا لا يرتاب مسلم في أن كل ما شرعه الله إنما شرعه لخير يعود على عباده، فهو سبحانه غني عن هؤلاء العباد، وهم الفقراء إليه في كل شيء، وبخاصة إلى منهجه الذي ارتضاه لهم، وأمرهم بالاعتصام به، حتى لا يضلوا سواء السبيل، فيكون الخسران المبين في الدنيا والآخرة.

فالتشريع الإلهي إذن منوط بمقاصد وحكم تهدف كلها إلى حفظ العالم بتحقيق المصالح وإبطال المفاسد، ومن ثم كان الربط بين الاجتهاد وفقه مقاصد هذا التشريع ضرورة دينية ومنهجية. فلا غرو عندها أن تواترت كل الدعوات إلى تجديد علم الأصول على وجوب الاهتمام بالمقاصد وتنمية دراستها والعمل على وضع قواعد أو ضوابط لها. وقد أشار بعضهم إلى أن كثيراً من المزالق في الاجتهادات الفقهية الحديثة مردها إلى أن علم الأصول في صورته الموروثة قد خلا من البيان الوافي للقواعد التي توضح علاقة الحكم بمقصده، وأن المنهجية العامة التي يؤسس عليها النظر الاجتهادي في تبين حصول المقاصد من الأحكام لا تقوم على تحليل الواقع المراد علاجه تحليلاً علمياً ولا تشمل مناظرة الحكم المستخلص من فهم نصوص الوحي بعناصر ذلك الواقع في عوارضه الشخصية الناشئة عن خصوصيات ظروفه48.

فمعرفة المقاصد منهجياً لا تكفي لكي يكون الاجتهاد المبني عليها محققاً للغاية منها، وإنما يحتاج الأمر -مع هذا- إلى فقه بالواقع وملابساته. ويشمل هذا الفقه كل ما ينطوي عليه هذا الواقع من مشكلات اجتماعية واقتصادية وفكرية ونفسية. فالمجتهد يجب عليه -كما يرى الشاطبي- النظر فيما يصلح بالمكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص، ويعلل هذا بقوله: "إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان49 واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك، فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة (ضعف) ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر، ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر، ويكون بريئاً من ذلك في بعض الأعمال دون بعض. فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نوراً يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناءً على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف."50

ويزيد الشاطبي الأمر توضيحاً فيقول: "وهذا النظر فيما يصلح بكل مكلف هو نظر في مآلات الأفعال، وهو نظر معتبر مقصود شرعاً، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل. فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه. وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه، أو لمصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد على تلك المفسدة فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية."51

وهذا النظر في مآلات الأفعال هو -حسب تعبير الشاطبي- مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغِبِّ جار على مقاصد الشريعة."52

ويرى الشيخ ابن عاشور أن تصرف المجتهدين بفقههم في الشريعة يقع على خمسة أنحاء:

النحو الأول: فهم أقوالها واستفادة مدلولات تلك الأقوال بحسب الاستعمال اللغوي، وبحسب النقل الشرعي بالقواعد اللفظية التي بها عمل الاستدلال الفقهي.

النحو الثاني: البحث عما يعارض الأدلة التي لاحت للمجتهد والتي استكمل أعمال نظره، في استفادة مدلولاتها ليستيقن أن تلك الأدلة سالمة مما يبطل دلالتها، ويقضي عليها بالنسخ أو الترجيح أو التخصيص والتقييد.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير