ولهذا كان من وسائل تجديد علم الأصول الربط بين قواعده والفروع العملية ما أمكن، حتى لا تصبح دراسة تلك القواعد غاية في ذاتها، فيلم من يدرسها دون أن يعرف كيف يستثمرها في استخراج حكم، أو توجيه رأي، أو دفع شبهة.
ولما كانت هذه الفروع من الواقع المعاصر كانت أكثر وقعاً وفاعلية، في جعل المنهج الفقهي أكثر ملائمة لاجتهاد عملي، مما لو كانت تلك الفروع تراثية. وللأسف فإن المؤلفات الأصولية المعاصرة ما زالت تعول في التمثيل للقضايا الأصولية على ما ورد في كتب السلف من الفقهاء من الفروع التطبيقية، وكأن الواقع الذي تعيشه الأمة الآن لا يعرف نوازل مختلفة لها أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الخاصة، وهي أبعاد يحتاج الحكم فيها شرعاً إلى منهج جديد يعتمد الثوابت، ولا يجمد على المغيرات، أو يقوم على القطعيات ولا يهاب الخروج عن الظنيات.
والحاصل أن علم الأصول ينبغي أن نتجاوز به في عصرنا مرحلة الاجترار والتكرار إلى مرحلة التجديد والابتكار، حتى يكون الاجتهاد -لا سيما في القضايا العامة التي تواجهنا فيها مشكلات جمة- ناضجاً متطوراً، لا يقف عاجزاً أمام ما تتمخض عنه الحياة كل يوم من نوازل بحجة أن السابقين لم يتكلموا فيها، أو أنه لا يوجد لها شبه فيما اشتملت عليه كتب الفقه الموروثة من مسائل.
وتجديد هذا العلم ليس أمراً هيناً علمياً ونفسياً. أما علمياً فإن الجهود يجب أن تتضافر لوضع منهج جديد يخلص الأصول مما ليس منها، ويعطي المقاصد حقها من الاهتمام والدراسة، ويحرر القول تحريراً دقيقاً في كثير من طرق الاجتهاد ومناهجه، وما يتصل بقضايا تفسير النص وسبل فهمه، ويلغي ذلك الجدل الذي أملاه حب الخلاف أحياناً، والرياضة الذهنية غير المثمرة أحياناً أخرى، والتي شغف به العلماء في عصور الضعف والتراجع الحضاري للأمة.
وليست العبرة في وضع تصور نظري جديد للأصول، وإنما ينبغي أن يكون هذا التصور سبيلاً لعمل علمي يكون بداية جديدة في التأليف الأصولي.
أما الجانب النفسي فإن هناك لوناً من الخشية في الإقدام على تجديد كل ما له علاقة بالدين، حتى أن كلمة التجديد نفسها إذا وردت في معرض الحديث عن مسألة فقهية تقابل بالامتعاض خوفاً من أن تكون ذريعة للتحلل من أوامر الدين وشعائره شيئاً فشيئاً.
وفضلاً عن هذا تجنح النفس الإنسانية إلى أن تتشبث بالإقتداء بالموروث، وقد ترى في الانصراف عنه مروقاً من عقائد ومبادئ يجب الحفاظ عليها والاستمساك بها.
والتحليل العلمي للوقوف ضد التجديد والتطوير مهما تكن مظاهره يثبت أن تعطيل العقل من وراء مقاومة التجديد، وليس الأمر في جوهره احتراماً لتراث أو اعتصاماً بتقاليد وأعراف.
والانتصار على هذا الجانب النفسي يحتاج إلى شجاعة وثقة بالنفس، وإيمان بأن الإسلام الذي ارتضاه الله ديناً للناس كافة يحض على إعمال العقل ومحاربة الجمود.
وقد سجل التاريخ أن كل دعاة الإصلاح والتجديد لم يسلموا من افتراءات الجامدين والمتنطعين، ولكن الظهور كُتب في النهاية لهؤلاء الدعاة، وباء الجمود بالبوار والخسران، وتلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
خاتمة
إن أهم ما انتهت إليه هذه الدارسة حول تجديد علم الأصول من نتائج علمية وما ترشد إليه من توصيات يمكن تلخيصه فيما يأتي:
أولاً: يمثل علم الأصول أصالة الفكر الإسلامي أصدق تمثيل، وقد سبق به فقهاء الإسلام كل فقهاء القانون في العالم، فلم يضع هؤلاء الفقهاء أصولاً للقانون إلا منذ نحو مائتي عام.
ثانياً: إن علم أصول الفقه يمثل عبر تاريخه الطويل مناهج المجتهدين، فالاختلاف بين المذاهب مردّه إلى اختلافات أصولية، فضلاً عن الأسباب الأخرى للاختلافات الفقهية، وإن كان كل ما صدر عن علماء الأصول يعبر في مجموعه عن الخصائص العامة لمنهج البحث التشريعي والفقهي الإسلامي.
ثالثاً: إن الدراسة الأصولية منذ القرن السادس لم تقدم جديداً، باستثناء ما قام به الشاطبي. أما الدراسات الحديثة في الأصول -على جدواها- فلم تقدم سوى مادة متوافرة في الكتب القديمة. فهذه الدراسات صياغة جديدة لآراء غير جديدة، ومن ثم كان التفاوت بينها في الشكل لا في المضمون، وفي التعبير والكم لا في التفكير والكيف.
رابعاً: إن الاجتهاد في علم الأصول ضرورة دينية وعلمية. فالأمة في حاجة ماسة إلى منهج أصولي جديد، يقوم على تناول الأدلة تناولاً يوضح كيفية دلالتها على الأحكام، مع دراسة المقاصد والقواعد بصورة موسعة وافية، والتخلي عن القضايا الهامشية، وتحرير القول في كثير من المسائل الخلافية، دون إغفال لهموم المجتمعات المسلمة المعاصرة حتى لا تكون المباحث الأصولية في واد والواقع الذي تنظر له في واد آخر.
وأما التوصيات التي ترشد إليها الدراسة فهي تدور في نطاق ما يأتي:
أولاً: إن البلبلة الفكرية التي تعاني منها الأمة الإسلامية في العصر الحديث من جراء الغزو الفكري من جهة، وبسبب عدم الفقه الصحيح بالمفاهيم والقيم الإسلامية من جهة أخرى، لا سبيل إلى إنقاذ الأمة منها إلا بمنهج علمي يعبر
عن مقاصد الإسلام ومهمته في الحياة.
ثانياً: إن وضع هذا المنهج الذي ينظم التفكير ويقود إلى الإبداع، ويمنع من التفرق والتنازع، ويحصر الاختلاف في الرأي في دائرته المحمودة، ويحمي طاقات الأمة أن تهدر أو تنفق فيما لا جدوى منه، إن كل ذلك مسئولية أهل الذكر من المفكرين والباحثين.
ثالثاً: إن المقصود بالمنهج هنا ليس هو المنهج الأصولي فحسب، وإنما يراد به معنى أوسع ليشمل كل ممارساتنا وأفعالنا، فنحن في واقعنا أمة بلا منهج في حوارنا وتخطيطنا العلمي والثقافي والسياسي والعمراني ... إلخ. ومن ثم كان تخلفنا الحضاري، فلا حضارة بغير منهج.
رابعاً: إن الاجتهاد الجماعي في كل المجالات، وبخاصة في مجال البحث الفقهي، هو السبيل الأمثل لتطوير ذلك المنهج وتطبيقه، ولهذا ينبغي تنظيم الاجتهاد حتى يسود المنهج العلمي بقيمه الإسلامية حياتنا فنظل بحق خير أمة أخرجت للناس.
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصدر ( http://www.eiiit.org/article_read.asp?articleID=306&catID=256&adad=265)
¥