إن بعض الوقائع قد يقتضي فيها القياس الظاهر المتبادر حكماًن ولكن يستقر عن نفس المجتهد -بناء على أدلة قامت عنده- أن هذا الحكم لا يتفق والمصلحة في هذه الواقعة، وأن الذي يتفق مع المصلحة فيها حكم آخر يقتضيه قياس خفي غير متبادر، فيحكم في الواقعة بما يتفق والمصلحة بناء على هذا القياس الخفي، ويعدل بذلك عن مقتضى القياس الظاهر، ويسمى حكمه هذا حكماً بالاستحسان."72
فالاستحسان قد يكون عدولاً عن قياس ظاهر أو استثناء جزئية من تطبيق قاعدة كلية، وهذا مراعاة لما تقتضيه المصلحة. قال الشاطبي: والحاصل أنه (أي الاستحسان) مبني على اعتبار مآلات الأفعال، فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق."73 وبذلك لا يكون الاستحسان خارجاً عن مقتضى الأدلة، فهو نظر في لوازمها ومآلاتها، ومن ثم فهو يمنح المجتهد حرية الاستنباط في حدود الإطار العام للشريعة وفق ما يطمئن إليه قلبه وينقدح في عقله من مصالح قد لا تتفق وما يقتضيه القياس، أو ما يؤدي إليه تطبيق القواعد العامة.
أما الاستصحاب فإنه من وسائل الاجتهاد التي يعول عليها في استنباط الأحكام لكثير من المشكلات، لأنه يشير أولاً إلى أن الشريعة الخاتمة لم تتنزل لإلغاء كل ما عرفته الحياة البشرية من عادات وألفته من تصرفات، وإنما كان نزولها لإصلاح ما اعوج من العقائد والقيم، ولإحياء ما درس منها ولتكميل ما نقص. ومن ثم لم تكن الشريعة هادمة لكل ما كان في الجاهلية، وكان ما تركته دون حكم له أو نص عليه على الأصل من الحل والإباحة.
وقد تحدث الأصوليون عن الاستصحاب فشققوا القول في أنواعه، ولكنهم لم يخرجوا بذلك التنويع عن فلك إبقاء الشيء على ما هو عليه حتى يثبت ما يغيره، سواء أكان فعلاً أو شيئاً أو نصاً، فالأصل في الأشياء الحل، وفي الأفعال الإباحة، وفي الذمم البراءة من التكليف، وفي النص العام الإبقاء على عمومه حتى يرد التخصيص، وفي النص المطلق الإبقاء على إطلاقه حتى يرد التقييد. وفي ذلك يقول الدكتور حسن الترابي: "وإذا جمعنا أصل الاستصحاب مع أصل المصالح المرسلة تتهيأ لنا أصول واسعة لفقه الحياة العامة في الإسلام."74
ويبدو من تلك الإشارات واللمحات عن تطوير مفاهيم بعض الأدلة حتى يتسنى للاجتهاد المعاصر أن يواجه التحديات بأسلوب علمي واقعي، أن هذا التطوير يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحكمة التشريع ومقاصده، وهي تحقيق المصالح ودفع المفاسد. فالمصلحة هي محور هذه الأدلة، وليس ترك القياس إلى الاستحسان أو الأخذ بالأعراف، أو تطبيق قاعدة الاستصحاب فيما لم يرد بشأنه نص إلا مراعاة للمصالح وما هو أيسر على الناس وأرفق بهم.
ولكن الدعوة إلى التوسع في مفاهيم بعض الأدلة قد ينجم عنها اضطراب في الآراء، بسبب عدم الضبط الدقيق لحدود هذا التوسع، وقد يتخذ من ليس أهلاً للاجتهاد من هذه الدعوة ذريعة للقول في الدين دون دراية وفقه، فيكون ضرره وخطره فادحاً، لأنه يُصَيَّر الخلاف في الاستنباط خارج دائرة ما يقبل منه ويعد رحمة بالأمة فضلاً عن بلبلة الأفكار، وفتنة الضعفاء والعامة، وشغل الناس بما لا يجديهم في الدين والدنيا.
وتكاد كل الضوابط والقيود التي تحول دون أن يكون ذلك التوسع في مفاهيم تلك الأدلة سبيلاً لتباين الآراء تبايناً يمزق وحدة الأمة ويفت في عضدها، ويغري من ليسوا أهلاً للاجتهاد بالجرأة على الفتيا لا تخرج عن دائرة تنظيم الشورى أو الاجتهاد الجماعي، ليقوم بمهمة المراجعة والمتابعة، وصولاً إلى الرأي الحاسم الذي يجمع عليه العلماء أو جمهورهم.
ولأننا في عصر لا يقيم للأفكار والنظريات المجردة وزناً من حيث صحتها ووجوب الأخذ بها، وإنما يحكم على الأفكار بالصحة من خلال علاقتها بالواقع وتأثيرها فيه فإن الفكر الأصولي في جوهره فكر يتعامل مع الواقع، لأنه منهج الأحكام العملية. ولهذا كانت دراسة هذا الفكر على نحو يجمع بين الجانب النظري والجانب التطبيقي هي الدراسة التي تؤتي أكلها في ترسيخ المفاهيم وتوضيح المبادئ، وتوجيه العقل لخوض معركة الاستنباط والاجتهاد.
إن القضايا التي يحرر مدلولها في عبارة دقيقة تخاطب العقل لها وزنها العلمي، ولكن لو أضيف إلى هذه العبارة صورة تطبيقية تعبر عنها فإن مدلول القضية يصبح أوقع في النفس وأرضى للعقل، وأنفع في مجال التنظير والتطبيق.
¥