(قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بالجمع، لاختلاف أنواع ما ينجو المؤمن منه يوم القيامة، ولأنه ينجو بفضل الله وبرحمته من شدائد وأهوال مختلفة، وقرأ الباقون بالتوحيد، لأنَّ المفازة والفوز واحد، فوحَّد المصدر، لأنه يدلُّ على القليل والكثير بلفظه، وهو الاختيار، لأنَّ الأكثرَ عليه) انتهى
ووافقه أبو عبد الله الشيرازي الفارسي، في " الموضَح ":
(والوجه أنَّ المفازاتِ جَمعُ مفازة، والمفازة: الفوزُ هنا، فهي مصدر، وإنما جاز جمعُها، وإن كانت مصدرًا، لاختلاف أنواعها، لأنَّ المصادر إذا اختلفت أنواعُها جازَ تثنيتُها وجَمعُها) انتهى
وأبو البقاء العكبري، في " التبيان " أيضًا:
(و {مَفازَتِهِمْ} على الإفراد لأنه مصدر، وعلى الجمع لاختلاف المصدر كالحلوم والأشغال) انتهى
وعند أبي حيَّان، في " بحره ":
(وقرأ الجمهور: {بمَفازَتِهم} على الإفراد، والسلمي والحسن والأعرج والأعمش وحمزة والكسائي وأبو بكر: على الجمع، من حيث النجاة أنواع، والأسباب مختلفة.
قال أبو علي: المصادر تُجمع إذا اختلفت أجناسُها كقوله: {وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}.
وقال الفرَّاء: كلا القراءتين صواب، تقول: قد تبيَّن أمرُ الناس، وأمورُ الناس) انتهى
وأخيرًا، جاء في " المصباح المنير ":
(وبعض الفقهاء جمع " القصد " على " قصود "، وقال النحاة: المصدر المؤكد لا يثنَّى ولا يُجمع، لأنَّه جنس، والجنس يدلُّ بلفظه على ما دلَّ عليه الجمع من الكثرة، فلا فائدة في الجمع، فإن كان المصدر عددًا كالضربات، أو نوعًا كالعلوم والأعمال، جاز ذلك، لأنها وحدات وأنواع جمعت.
فتقول: " ضربت ضربين "، و" علمت علمين "، فيثنَّى لاختلاف النوعين، لأن " ضربا " يخالف ضربا في كثرته وقلته، و" علما " يخالف علما في معلومه ومتعلقه، كعلم الفقه وعلم النحو، كما تقول: " عندي تمور "، إذا اختلفت الأنواع.
وكذلك " الظنّ "، يُجمع على " ظنون " لاختلاف أنواعه، لأنَّ " ظنا " يكون خيرا، و" ظنا " يكون شرًّا.
وقال الجرجاني: ولا يجمع المبهم إلا إذا أريد به الفرق بين النوع والجنس، وأغلب ما يكون فيما ينجذب إلى الاسمية، نحو العلم والظن، ولا يطرد.
ألا تراهم لم يقولوا في قتل وسلب ونهب: قتول وسلوب ونهوب.
وقال غيره: لا يُجمع " الوعد " لأنه مصدر، فدلَّ كلامهم على أنَّ جَمع المصدر موقوف على السماع، فإن سُمِع الجمع علَّلوا باختلاف الأنواع، وإن لم يُسمَع، علَّلوا بأنه مصدر، أي باق على مصدريته.
وعلى هذا فجمع " القصد " موقوف على السماع) انتهى
وأودُّ أن أستشهد بآية أخرى، تقوية وتوكيدًا لهذه المسألة.
جاء في تفسير " التحرير والتنوير "، عند قوله تعالى: {وهُوَ الَّذِي أنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ} المؤمنون 78.
(وجَمَع " الأبصار والأفئدة " باعتبار تعدد أصحابها، وأما إفراد " السَّمع " فجرى على الأصل في إفراد المصدر، لأنَّ أصل " السَّمع " أنه مصدر.
وقيل: الجمع باعتبار المتعلقات، فلما كان البصر يتعلق بأنواع كثيرة من الموجودات، وكانت العقول تدرك أجناسًا وأنواعًا جُمِعا بهذا الاعتبار) انتهى
وعند القرطبي، عند تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ علَى قُلُوبِهمْ وعلَى سَمْعِهِمْ وعلَى أبْصَارِهِمْ غِشاوَةٌ} البقرة 7.
(إن قال قائل: لِمَ جمع الأبصار ووَحَّد السمع؟ قيل له: إنما وحَّده لأنه مصدر يقع للقليل والكثير؛ يقال: سمعت الشيء أسمعه سَمْعًا وسماعًا، فالسّمع مصدر سمعت؛ والسمع أيضًا اسم للجارحة المسموع بها، سُمِّيت بالمصدر. وقيل: إنه لما أضاف السمع إلى الجماعة دلَّ على أنه يراد به أسماع الجماعة؛ كما قال الشاعر، " من الطويل ":
بها جِيَفُ الحَسْرَى فأمَّا عِظامُها * فبيضٌ وأمَّا جِلدُها فصَلِيبُ
إنما يريد جلودها فوحّد؛ لأنَّه قد علم أنه لا يكون للجماعة جلد واحد) انتهى
وللرازي، عند قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ} السجدة 9
(ذكر في " السَّمع " المصدر، وفي " البصر والفؤاد " الاسم، ولهذا جمع " الأبصار والأفئدة "، ولم يجمع " السَّمع "، لأنَّ المصدر لا يجمع) انتهى
وكذا الشوكاني، عند قوله تعالى: {وجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ} السجدة 9
¥