وإحراجه، فلما "فاتحته ألجمني بالحجة وطالبني بالعلة وألزمني إلزامات لم أهتدِ إليها ".
..................................
وتقاطر النحاة على وضع مصنفات في العلل وأقسامها، فوضع ابن كيسان "320هـ" "المختار في علل النحو" في ثلاثة مجلَّدات أو أكثر. ووضع أبو القاسم الزجاجي "ت 337 هـ" كتاب "الإيضاح على علل النحو". وألف محمد بن علي العسكري المعروف بـ "مَبْرَمان" "ـ 326 هـ" وهو أستاذ السيرافي وأبي علي الفارسي كتاب "المجموع في علل النحو"، ووضع أبو الحسن أحمد بن المهلَّبي كتاب "شرح علل النحو" وكتب أبو الحسن محمد بن عبد الله المعروف بابن الورّاق "ت 381" كتابه "علل النحو *) "، وصنّف الفارقي في كتابه "تقسيمات العوامل وعللها". ووضع الحسن بن عبد الله المعروف بـ "لِغْدة الأصفهاني" في العلل كتابين هما: علل النحو، ونقض علل النحو.
وكذلك صنّف هارون بن الحائك كتابه "العلل في النحو "
........................................
ولعلّ كتاب "الإيضاح في علل النحو" لأبي القاسم الزجاجي الكتاب الأول الذي وصلنا والعلّة قطب رحاه، "فقد جمع فيه صاحب أهم ما عرف من علل نحوية في عصره، سواه ما اتّصل منها بمدرسة البصرة أو الكوفة أو بغداد، أو نمي إلى نحوي بعينه ".
.......................................... زز
لقد استفحل أمر العلّة والتعليل في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وتفاقم تغلغل الفلسفة وعلم الكلام في النحو وطرق النظر في مسائله؛ ذلك أنَّ النحاة احتذَوا بالمتكلمين وقلّدوهم، فأخذوا بتطعيم نحوهم بالفلسفة والعلّة. وما ذلك إلا لأنَّ مسائل علم الكلام كانت هي الأسبق إلى تصدّر مجالس العلم والبحث والمناظرة، بل كان عدد من النحاة من المتكلمين، بل ليس ببعيد القول بامتزاج النحو بالفلسفة والمنطق امتزاجاً كبيراً حتى جعلهما السيرافي في وادٍ واحد، وجعلهما الرماني وجهين لعملة واحدة حتى قال فيه الفارسي قولته: "إذا كان النحو ما يقوله الرمّاني فليس معنا منه شيء، وإن كان النحو ما نقوله نحن فليس معه من شيء ".
ولعلّنا نستدلّ من المقولة السابقة على نفور أبي علي الفارسي من هذا الخلط بين النحو وبين المنطق من جهة، ونفوره من أن يصبح النحو "نحواً عقلياً نظرياً جدلياً أكثر مما كان عملياً مستمداً من واقع اللغة الحيّة المتداولة " حتى غدت طرائق النحاة في النقاش والإقناع والتعليل أشدّ اقتراباً من علم الكلام والجدل منها إلى علوم اللغة وأحكامها. فالقرن الرابع ـ بحق ـ يمثل ذروة سنام البحث النظري في العلة وأقسامها، وما جاء من بعد ذلك من نحاة ألّفوا فيها لم يستطيعوا زيادة شيء أو استدراكه على النحاة الأوائل الذين رادوا الطريق وألحبوه، ذلك أن استنباط العلة ـ في هذا القرن ـ أصبح مظهراً من مظاهر الذكاء والفطنة، وارتبط ارتباطاً بالثقافة المنطقية.
وشهد هذا القرن ظهور مصطلح "علة العلة ". فأبو علي الفارسي مثلاً كان يكثر من التعليل، حتى إنه نسب إليه انتزاعه ثلث العلل التي أصابها أصحابه من بعده.
وماز ابن جني علل النحو من علل الفقهاء والمتكلمين، وأنحى باللائمة على من ضعّفوا علل النحاة، لأن علل النحاة تأنس بها الفطرة، ويألفها الحس والشعور، ويميل إليها الطبع فهي مواطئة له، ولا تنقاد جميع علل الفقهاء هذا الانقياد، فعلة النحاة علل حسية تكشف عن نتيجة الاستقراء وتفصح عنها، وهي ليست من المنطق الصوري، بل من المنطق المادي (32).
لقد كان الفارسي شديد الاعتداد بالعلّة، يسرع إلى اقتناصها والقول فيها، فكان يذكر من العلل ما يحضره في الحال، ثم إنه يعاود النظر والروية فيما أفتى، حتى إنه جعل للأول تسمية "الجواب الميداني" الذي يقدحه على زناد فكره في الحال. وقد روى عنه أنه كان مع عضد الدولة في الميدان فسأله في علة نصب المستثنى فقال له أبو علي: انتصب لأن التقدير: أستثنى زيداً، فقال له عضد الدولة: وهلاّ قدّرت امتنع فرفعت زيداً؟ فقال له أبو علي: هذا الجواب ميداني، إذا رجعت ذكرت لك الجواب الصحيح إن شاء الله ".
¥