إن التعليل ـ بحق ـ نما وترعرع واستوى على سوقه، وآتى ثماره يانعة علي يدي أبي علي الفارسي وتلميذه ابن جني "سواء في ذلك العلل التعليميّة والعلل الثواني، والعلل الجدلية، وتأثر بهما معاصروهما وخالفوهما ". حتى إن ابن جني فسح الطريق العلماء أن يتفرّوا في تعليلاتهم، ولم يضيق عليهم الخناق، ولم يلزمهم يعلل الآخرين، فكل من ظهرت له صحيحة وطريق نهْجة، فهو خليل نفسه، وأبو عمرو فكره. ولعلّ في هذه الفكرة ما يشهد لابن جني بالعقلية المتسعة الأفق، التي تنأي عن أن تحجر واسعاً، أو أن تقلِّص لا حباً.
وهذا الاتجاه إلى التعليل ـ ونعني العلل القياسية ـ ليس هو في حقيقة الأمر سوى ملمح من ملامح تطوّر الفكر العربي ونضجه على مر العصور وثمرة من ثمار تطوره، ومنتوج منطقي وحتمي لما سبقه من أوليات ومقدمات.
ولا يعني وقوفنا هذه الوقفة عند العلة في القرن الرابع أن النحاة قد انقطعوا عن التعليل أو الأخذ به والتأليف فيه، بل استمرَّ ذلك إلى قرون متأخرة، فقد صنّف ابن الأنباري "ت 577 هـ" كتابه أسرار العربية وقال عنه: "أوضحتُ فيه فسادَ ما عداه بواضح التعليل، ورجعت في ذلك كله إلى الدليل ". وصنف كذلك "الجمل في علم الجدل" و"نجدة السؤال في عمدة السؤال"، و"الإغراب في جدل الإعراب" و"لمع الأدلة. وأسهم أبو البقاء العكبري "616 هـ" فصنّف في ذلك كتابه "اللباب في علل البناء والإعراب"، فكان التعليل "غاية المؤلف الأولى من تأليفه الكتاب ... فكل شيء معلول بعلّة أو بضع علل، وعلى النحوي أن يفتّق عرا الكلام عن هذه العلل ... ففي كتب السابقين، ومنها كتاب سيبويه، ومقتضب المبرد، وأصول ابن السرّاج فيض من هذه العلل، ولم يزد عمل الشيخ في لبابه على تنسيق هذه العلل، وسوقها مساقها المسدّد المحكم ".
وللعلّة ـ كما للمعلَّل ـ أنواع. أما العلل فهي عند ابن السراج "316 هـ" نوعان: الأوّل يؤدي إلى كلام العرب، كأن نقول: كل فاعل مرفوع.
والثاني يسمَّى علَّة العلة ـ ولعلّ هذا المصطلح عرف على يديه أوّل ما عرف ـ كأن نقول: لم صار الفاعل مرفوعاً والمفعول به منصوباً ... وهذا "ليس يكسبنا أن نتكلم كما تكلّمت العرب، وإنما تستخرج منه حكمتها في الأصول التي وضعتها.
وزاد الزجاجي "ت 337 هـ" نوعاً ثالثاً فقد جعلها ثلاثة أنواع، هي:
العلل التعليمية: وبها يتوصَّل إلى تعلّم لغة العرب، فإذا سمع بعض منها قيس على نظيره. ومنها البحث عن علة رفع كلمة أو نصبها، أو جزمها: لم رفعت، ولم نصبت؟ فهذا "وما أشبهه من نوع التعليم وبه ضبط كلام العرب ".
2 ـ العلل القياسية: وهي التي كان الحكم فيها ناجماً عن قياس شيء على شيء، مثال ذلك أن يقال: لم نصبت "زيداً" في قولك: إنّ زيداً قائمٌ، فيقال: إنَّ وأخواتها ضارعت الفعل المتعدي إلى المفعول فحملت عليه، فأعملت إعماله، فالمنصوب بها مشبّه بالمفعول لفظاً، والمرفوع بها مشبّه بالفاعل لفظاً.
3 ـ العلل الجدلية النظرية: مثال ذلك ما يعتَلّ به في باب "إنَّ" بعدَ الاعتلال القياسي السابق، فيقال: منْ أين شابهت "إنَّ" وأخواتها الأفعال؟ وبأي الأفعال شبّهوها؟ وهي ما يطلق عليها اسم العلل الأوائل، والثواني، والثوالث.
وقسم ابن جني العلل من حيث الجواز والوجوب إلى علل موجبة وعلل مجوِّزة. قال: "اعلم أنّ أكثر العلل عندنا مبناها على الإيجاب بها، كنصب الفَضْلة أو ما شابه في اللفظ الفَضلة. ورفع المبتدأ والخبر، والفاعل ... فعلل هذه الداعية إليها موجبة لها، غير مقتصرة على تجويزها، وعلى هذا مقاد كلام العرب. وضرب آخر يسمَّى علّةً، وإنّما هو في حقيقة سبب يجوِّز ولا يوجبُ من ذلك الأسباب الستة الداعية إلى الإمالة، هي علة الجواز لا علّة الوجوب؟ ألا ترى أنه ليس في الدنيا أمر يوجب الإمالة؟ ... وإن كل ما لعلة من تلك الأسباب الستة لك أن تترك إمالته مع وجودها فيه؟ ".
¥