تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ورأى ابن جني في موضع آخر أن ثمّة ضربين للعلة، فهناك ضرب واجب لابد منه، فالنفس الإنسانية لا تطيق التحوّل عنه، ولابدَّ لها منه، ومن ذلك قلب الألف واواً للضمة قبلها، "فهذا ونحوه لابدَّ منه، من قبل أنه ليس في القول ولا احتمال الطبيعة وقوعُ الألف المدَّة بعد الكسرة ولا الضمة. فقلب الألف على هذا الحدِّ علْتُه الكسرةُ والضمَّةُ قبلَها، فهذه علَّةٌ برهانية لا لبس فيها، ولا توقّف للنفسِ عنها". ومن شروطها الاحتياط في وضعها حتى لا يضطر القائل بها إلى تخصيصها حتى لا يدخل عليه ما يضادّها أو يلغيها.

والضرب الثاني ما يمكن تحمّله على تجشُّم واستكراه، من ذلك قلب واو "عصفور" ونحوه ياء إذا انكسر ما قبلها، نحو: عُصَفْير، وعَصَافير، فإنّه بالإمكان أن يقال: عُصَيْفور، وعصافِور، إلاّ أنّ ذلك لا يكون إلا مع الجهد والمشقة. وهذه القسمة إلى علل موجبة ومجوِّزة، قسمة فقهيّة، ذلك أنّ ابن جني أول من رأي وضع أصول النحو على أصول علم الفقه والكلام.

والمعلَّل أيضاً له نوعان، أمّا الأول فهو ما كان معلّلاً بعلّةٍ واحدةٍ، وهي ما يسمّى بالعلّة البسيطة، وهي التي يَقع التعليل بها من وجه واحد، كأن يعلّل بالخفّة، والاستثقال، والجوار، والمشابهة، ... وأما الثاني فما كانت علته مركبة من عدة أوصاف، وصفين فصاعداً. مثال ذلك تعليل قلب واو "ميزان" ياء بوقوعها ساكنة بعد كسرة، فالعلة ليست مجرد سكون الواو، ولا مجرد وقوعها بعد كسرة، بل العلّة مجموع الأمرين معاً.

وقد وقف ابن حزم "ت 456 هـ" موقف الثائر على النحاة وعللهم، وثار حَمَلة مذهبه من بعده عليهم أيضاً، فعدَّ ابن حزم القول بالعلة والتعليل خطأ وبدعة يحسن بالقائل بها أن يتوب عنها، ذلك أنّ العلة ـ في رأيه ـ "أَصّْلُ خطأ القوم وبعدهم عن الحقائق، وهي بدعة محدثة ... ونسأل الله لإخواننا أن يتوب عليهم من بدعة القياس".

والعلل لدى ابن حزم لا شيء حقيقياً فيها، ولا يرجع شيء منها إلى الحقيقة، وإنما هو مسموع من أهل اللغة مّمن يُرجَعْ في ضبطها ونقلها إليهم، وهو مع "أنه تحكم فاسد متناقض فهو أيضاً كذب، لأنَّ قولهم: كان الأصل كذا، فاستُثقل فنقل إلى كذا، شيء يُعلم كل ذي حسٍّ أنه كذب لم يكن قطّ، ولا كانت العرب عليه مدَّة ثم انتقلتْ إلى ما سمع منها بعد ذلك ".

ولفَّ ابن مضاء القرطبي "ت 592 هـ" لَفَّ ابن حزم فجعل الخوض في العلة حراماً، وزيَّف تعليلات النحاة ورفض العلل الثواني والثوالث ودعا إلى إلغائهما، ذلك أن أيَّ ظاهرة لغوية هي من الله ولا حاجة إلى استنباط العلل، وما على العلماء عند تعرّضهم لأي سؤال عن علة ظاهرة ما إلا أن يقولوا: هكذا نطقت العرب "

..................

إن في دعوى الظاهريين كثيراً من الشطط والمبالغة، وكبحاً لجماح الفكر، ودعوة إلى الركود والركون، وتضييقاً عليه، ذلك أنَّ الفكر ومنذ نشأته يبحث عن العلة والسبب، ثم إنّ البحث في العلة والتفكير فيها لهو في صميم الفكر الإسلامي، "فالله ـ تبارك تعالى ـ هو موجدُ العالم، وهو السَببُ الأوّل، والعلَّة الأولى ".

فدعوة الظاهريين ـ في حقيقة الأمر ـ مدعاة إلى سدّ الأفق ـ وحجر اطّراد التطوُر الذي هو أحد سمات العقل الحيّ، وسبيل إلى إصابة الفكر بالترهل، وهي مظهر من مظاهر عودة الفقه إلى التأثير في الفكر النحوي من جديد، ورغبة من أصحابها في بسط سلطانهم عليه إنكار "كل ما فيه من ألا عيب ذهنية قامت على القياس، وأدت إلى أنواع عجيبة من العلل الثواني الثوالث ". ثمّ إنّ العلة التي استنبطها النحاة ليست عِللاً يقينيّة ولم يقل أحدٌ منهم أنَّها كذلك، وإنَّما هي ـ عندهم ـ الوصف الذي يعتقدون أنه وجه الحكمة في اتخاذ هذا الحكم أو ذاك، وفيها سعي من جهة أخرى إلى جعل العادات اللغوي تنضوي تحت جناح التفسير العلمي الذي يجنح إلى إيجاد قواسم مشتركة بينها، فإذا وجدت المقدَّمات لم تتخلّف النتائج. وإذا لنا أن ندلي برأينا في مسألة التعليل، فإننا نجنح إلى رفض تلك العلل الجدلية التي لا طائل من ورائها، والتي تؤدي في حقيقة الأمر إلى تسلسل الأسئلة عن العلل، وإيقاع الفكر في حبائل التشتت والضياع.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير