هذا التراث النحوي الضخم بأقيسته وعلله، وما وصل إليه من نماء ونضج كان ماثلاً أما أبي حيان، حاضراً في ذهنه، فقد ضمّ شرحه للتسهيل كمَّاً غير قليل من العلل، وفيه غير ما قليل من "نحو منطقي في التحليل والتقسيم والتحليل، ومن عناية بالعلة وبحث في العامل
لقد جنح أبو حيان إلى رأي ابن مضاء في إطّراح العلل في اللغة والنحو، ونفر منها، ونفَّر، ودعا إلى ترك ما لا يجدي نفعاً منها، وما لا يكسبنا أن نحذو جذو العرب في كلامها، وعلم اللغة والنحو لا يحتاجان إلى تعليل، فهما علمان وضعيان، والوضعيات لا تُعلّل (56) ".
هاجم أبو حيان تعليلات النحاة فهي لا تحصِّل في أيدي الدارسين أي فائدة علمية، فـ "النحاة مولعون بكثرة التعليل، ولو كانوا يضعون مكان التعليل أحكاماً نحوية مستندة للسماع الصحيح لكان أجدى وأنفع، وكثيراً ما نطالع أوراقاً في تعليل الحكم الواحد، ومعارضات ومناقشات، ورد بعضهم على بعض في ذلك وتنقيحات على زعمهم في الحدود خصوصاً ما صنّفه متأخّرو المشارقة على مقدمة ابن الحاجب فنسأم من ذلك ولا يحصل في أيدينا شيء من العلم ".
قال أبو حيان في مبحث الضمير البارز: "فجميع ضمائر الجر هي ضمائر النصب المتصلة، وكذلك أشركوا في الياء، جعلوها من ضمائر الرفع المتصلة في خطاب المؤنث، وجعلوها من ضمائر النصب والجرّ للمتكلم، وهذه كلّها أوضاعٌ لا تعليل لها ".
وردّ على ابن مالك تعليله دخول تاء التأنيث الساكنة فعل الأمر ولا المضارع للاستغناء عنها بياء المخاطبة، وبتاء المضارعة، ولأنها ساكنة، والمضارع يسكن في الجزم، فلو لحقته التقى فيه ساكنان، "وهذه التعاليلُ هي تعاليل لخصوصيات وضعيّ’، فلا حاجة بها".
إنَّ أبا حيان يدعو إلى إلغاء العلل التي لا ينتج عنها فائدة تطبيقيّة واقعيّ’، أما الأمور الوضعية ـ وعلم اللغة وضعيٌّ ـ "لا يحتاج إلى تعليل ... فلا يقال: لم جاء هذا التركيب في مثل: زيدٌ قائم، هكذا؟ .. فهذا كله تعليل يسخر العاقل منه ويهزأ من حاكيه فضلاً عن مستنبطه، فهل هذا إلا من الوضعيّات، والوضعيّات لا تعلَّل؟ ".
والحقيقة أنّ أبا حيّان لا يلغي التعليل جملة واحدة، ولكنه يرى الأخذ به بعد تقرّر السماع عن العرب وهذا يؤكد إلحاحه على السماع ـ يقول أبو حيان: " ... والتعليل إنَّما ينبغي أنْ يسلك بعد تقرُّر السماع، ولا ينبغي أنْ يعول منه إلا على ما كان في لسان العرب واستعمالاتها تشهد له وتومي إليه.
ولقد كان بعض شيوخنا من أهل المغرب يقول: إيّاكم وتعاليل الرمّاني والورّاق ونظائرهما، وكثيراً ما شُحنت الكتب بالأقيسة الشبهيّة والعلل القاصرة، وهي التي يعجز عن إبداء مثلها مَنْ له أدنى نظر في الحال الراهنة، ولا يحتاج إلى إمعان فكر ولا إكداد بصيرة ولا حث قريحة "
ولعمري هل علّل نحاتنا إلا ما سمع من كلام العرب؟
وما رأيناه من مشايعته ابن حزم وابن مضاء ومن لف لفهم من الظاهريين لا تعدو أن تكون صدى نظرياً لصيحة ابن حزم، ذلك أن أبا حيان كان يكثر من العلل "ولا تأتي مثل هذه التعليقات إلا بعد أن يكون قد استوفى العلل وناقشها فموقفه لم يكن موقف من يدعو إلى نبذ العلل، وإذن كان عليه أن ينبذها، ولكنه موقف المعلم الذي يلفت النظر إلى مثل هذه العلل النظرية لهذا الحكم الواحد عادمة الجدوى ".
فهجوم أبي حيان إذاً هجوم نظري بحت، ذلك أنها تنتشر في صفحات كتابه انتشاراً بيّناً، حتى ليمكن القول إنه لا يستطيع منها فكاكاً، فـ"كأن تيار التعليل والاتجاه إليه كان من القوة والثبات بحيث لا يستطيع أبو حيان ولا غيره أن يتصدى له أو يستغني عنه، وذلك على الرغم مما تصوره لنا تعليقاته العابرة من كونه غير مقتنع بهذه العلل ". بل ربما علل أبو حيان الحكم النحوي المقرّر بأكثر من علة، فقد علل فتح نون الأفعال الخمسة مع الواو والياء بعلل عدة، نمها علة التخفيف، وعلة الاستثقال، وعلة حمل الفرع على الأصل.
¥