ما زِلتَ مِقدامًا في حلبة " الفصيح " – أيُّها الفارس -، وما زالَتْ روائعُك حديثَ الرُّكبان وبهجةَ المَجالس، متألِّقةً في حُسنِها المتطابق المتجانس.
قد أصبحتُ أسيرًا لها، أغازلُ جمالَها، ولا أملُّ خيالَها
غير أني أراك تركبُ المصاعب، في الدفاع عن رأيٍ مرجوح، وتستسهلُ الصعائب، لإنقاذ معنى مجروح.
إلاَّ أنَّ الأدلَّة التي بين يديك، تكاد لا تساعدك، والتعليلات لا تؤيِّدك
تحاول بشتِّى الطرق، - أيها الفتَى المُناور، والذكِيُّ المُحاور - أن تسلك بي شِعابًا، قد تباعَدَتْ عن ما نحنُ بصَدَه أطرافُها، وتنافَرتْ عن هدفنا أوصافُها.
أسأل الله أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، إنه هو البرُّ الرحيم.
وقبل أن أبدأ النظر في تعقيبك الأخير، أودُّ أن أشير إلى أنني أحبُّ الاجتهاد السَّديد، وأكره التقليد، ولا أمنع أن تبدي رأيك، ولكنني أفضِّل أن يظلَّ التركيز في هذا النقاش، على قضيَّة خبر الشرط، وينحصر الكلام في دائرة نصوص العلماء، حتَّى لا تتفرَّق بنا السُّبُل، وينقطع بنا الأمل.
قولك: (أنتَ تتفق معي أن جملة الشرط تعد جملة واحدة، ولكنك تعود وتجعلهما جملتين، لكل جملة إعرابها)
لا – يا أخي الفاضل -، ما زلتُ أقول: إنَّ الجملة الشرطية إذا وقعت موقعًا داخل جملة، تُعرَب كلفظ واحد، نحو قول زهير، " من البسيط ":
لَها أداةٌ وأعْوانٌ غَدَوْنَ لَها * قِتْبٌ وغَربٌ إذا ما أُفْرِغَ انْسَحَقا
فالجملة الشرطية " إذا ما أُفْرِغَ انْسَحَقا " كلها من أولها إلى آخرها، في محل رفع نعت لـ" غربٌ ".
وقلتُ: من أولها إلى آخرها، ليُعلَم أني أعني المشتملة على:
أداة الشرط: " إذا "
جملة فعل الشرط: " أُفرِغَ "
جملة جواب الشرط: " انسحقا "
فلذلك قلت، وما زِلتُ أقول: تكون جملة واحدة إذا وقعت في موقع المفرد.
ولكن إذا بدأنا بتفصيل إعرابها، فإنه يَلزم إعراب كلِّ أجزائها، الأداة لوحدها، وجملة فعل الشرط لوحدها، وجملة الجواب لوحدها.
وقضيتُنا محصورة في الجملة الشرطية التي تبدأ باسم شرط مبتدأ، فحينما نبدأ بتفصيل إعرابها، نقول:
اسم الشرط: مبتدأ
ونحن متَّفقان على هذا، لا خلافَ بيننا، إنما خلافنا، ومحور هذا النقاش، هو عندما نتكلَّم عن إعراب خبر اسم الشرط الواقع مبتدأ، فلا بدَّ من الأخذ في الاعتبار، أنها تتكوَّن من جملتين: جملة فعل الشرط وجوابه.
وهذا الذي قلتُه ابتداء، وأعود وأقول: إذا أعربتَ اسم الشرط مبتدأ، فلم يعد هناك جملة واحدة، بل جملتان، لأنك قد حكمتَ عليهما بالفصل، عندما فَصلْتَ اسم الشرط، وأعربتَه مبتدأ.
أرجو أن يكون في هذا الوضوح الكافي، وإزالة الإيهام الخافي، وبالله التوفيق.
وقولك: (بل نصصتُ أنهما مختلفتان، فإحداهما اسمية خبرية، والثانية شرطية خبرية)
أقول: وهذا القياس ليس صحيحًا، لأنك تريد قياس إعراب الاسمية على الشرطية.
ولا خلاف بيننا في تعيين خبر الاسمية، وإنما الخلاف الدائر بيننا هو خبر الشرطية.
وقولك: (فأنا أقدِّر بعد جعل "مَن" مبتدأ، "إن" داخلة على الشرط والجواب، كأن الجملة في الأصل: " مَن إنْ يسألني أعطه "، " هذا مثال لا يتكلم به" كما يقول سيبويه)
أقول: الآن وصلنا إلى المنعطف الحرج، وأخيرًا قد أدركتَ أنَّ جزأي الجملة الشرطية، بعد أن انفك سوارهما، وانحلَّ عقالهما، وافترقا عن بعضهما، يحتاج الأمر، إلى ربطهما مرة أخرى، ليُعرَبا بلفظ واحد.
والحمد لله، أنك – الآن – أدركتَ مقصدي، ووافقتني في تعليلي، وها أنتَ تسْتَنجدُ بأمِّ أدوات الشرط، لتساعد الجملة البائسة، التي انفصل عنها اسم الشرط، فضعُف نِصالها، وتفكَّكت أوصالها، ولذلك جلبتَ " إنْ "، ليستمرَّ قيامُها، ويُحفَظ قِوامُها.
" ما شاء الله "، أظنُّ أنه، لم يسبقك إلى هذا التقدير، معتنقو هذا الرأي، وسأمضي معك في تقديرك، لنرَى إلى أيِّ مدى تثبتُ صلابتُه، وتشتدُّ مَتانتُه، وتحافظ جُملتُك على وُقوفِها، ويَبقَى بَريق حُروفِها.
تقديرك للجملة: " مَن إنْ يسألني أعطه "
وسؤالي: هل لا زالت " مَن " شرطية بعد التقدير؟
¥