{ونُودُوا أن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ}، قال الزجَّاج: إنما قال {تِلْكُمُ} لأنهم وُعِدوا بها في الدنيا، فكأنه قيل لهم: " هذه تلكم التي وُعِدتٌُم بها "، وجائز أن يكون هذا قيل لهم حين عاينوها قبل دخولهم إليها) انتهى
ومن بعده، قرَّر الرازيُّ، قول الزجَّاج.
ونصَّ أبو عبد الله محمد الأنصاري الخزرجيُّ القرطبيُّ، على هذا الوجه في هذا الموضع من سورة الأعراف، وفي مواضع أخرى من القرآن العظيم، لا أرَى حاجة لذكرها.
والقرطبيُّ موافق لأبي محمد مكي القيسي، في ما ذهب إليه في " مشكل إعراب القرآن "، في مواضع أخرى غير موضع الأعراف.
أقول: لا عليك - يابنَ جرير -، أنتَ ومَن مشَى معك، فقَدركُم يَعرفه العلماء الأفاضل، ويَشهد له الأواخِر والأوائل، فما تضرُّكم كلمة لا تتعدَّى تَجويفَ قائلها.
وأمَّا القول، بأنَّ " مثل هذا الأسلوب، لم يوجد في كلام عربي فصيح "
أقول: " ما شاء الله "، لم أكن أعلم أنَّ مِن بيننا، مَن حيزَت له الفصحى بأسرها، ومَلكَ زمام أمرها.
ولم أكن أعلم أنَّ مِن بيننا، مَن عاصر امرأ القيس في زمانه، وجالسَ طرفة في حانوته, ورافقَ زهيرًا في جولاته.
ولم أكن أعلم أنَّ مِن بيننا، مَن هو مِن نَسل " العرب البائدة "، غير أنه لم يأتِ إلاَّ في هذا العصر.
أقول: هذه دعوى تحتاج إلى بيِّنة، وإن كنتُ أعلم أنها أماني المُفلسين، الَّذين لا يَعقلونَ شيئًا ولا يَهتدون.
وأمَّا الزَّعم بأنَّ موضع الزخرف هو نفس موضع الأعراف، فزَعمٌ فيه نظر، من ثلاثة أوجه:
الأوَّل: أنَّ الاختلاف بين الموضعين ظاهر من جهة الوضع، ومن جهة السياق.
أما من جهة الوضع، فلن أتكلَّم عنه، لأنه واضح لكلِّ ذي عَينين.
وأمَّا من جهة السياق، فموضع الأعراف كانت الجملة مدار البحث، جوابًا للمؤمنين بعد أن عاينوا الجنَّة، إمَّا قبل دخولها، أو بعده، على اختلاف التفاسير.
وأمَّا موضع الزخرف، فكان ضمن جملة من الآيات التي تفيد الأخبار المفرحة للمؤمنين.
الثاني: أنَّ موضع الأعراف، جاء بعد النداء، فكان أكثر ترجيحًا من موضع الزخرف بأنَّ القول كان بعد دخول الجنَّة، ويقوِّي ذلك الميم في اسم الإشارة " تلكم ".
الثالث: أنَّ موضع الأعراف كانت الجملة مدار البحث، هي المقصودة، حيث انتهى السياق بها.
أما موضع الزخرف، فكانت الجملة توطئة لِما بعدها، وهي قوله جلَّ وعلا: {لكُم فيها فاكِهةٌ كثيرةٌ منها تأكلونَ}، والله أعلم.
وأقول أيضًا، هذا الفرق ملحوظ، ولكن ذهب بعض علماء التفسير إلى اتفاق الموضعين، وهم على قسمين:
الأول: يكتفي بتفسير الموضع الأول، ويحيل الثاني عليه، وذلك مثل الواحدي، وابن الجوزي، وغيرهما.
الثاني: ينصُّ على التفسير في كلِّ موضع، مثل القرطبي، فهو يرَى تقدير كلمة " هذه " في الموضعين، وقد ذكرتُ قوله في موضع الأعراف، وهذا موضع الزخرف:
(قوله تعالى: {وتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتي أُورِثتُمُوها بِما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
{وتِلْكَ الْجَنَّةُ}، أي يقال لهم: " هذه تلك الجنَّةُ التي كانت توصف لكم في الدنيا ") انتهى
وأما القول بضرورة تثبيت المعنى في المواضع المتشابهة، فهذا قَول مردود.
فهي في كل موضع تشتمل على شيء لم تشتمل عليه في الموضع الآخر، والشواهد على ذلك كثيرة، منها:
{قالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ} سورة الأعراف 109
{قالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ} سورة الشعراء 34
لأنه قد اختلف زمن القَولين.
وأما القول بأنه ليس في آية الزخرف إشارة إلى الجنة التي كانوا يوعدونها في الدنيا، فهذا قَول قد لفَّه الوهم، وأحاطته الظلمة.
إذ أنَّ وجود ضمير المخاطب في صفة الجنَّة، يلزم منه وجود العهد بين المخاطِب والمخاطَب لاسم الإشارة.
فإذا قلتُ للمخاطب: " ذلك الكتاب الذي قرأتَه "، تعيَّنت اللام للعهد، وإلاَّ لَما كان لجملة {التي أورِثتُموها} معنى.
أما العهد، فقد اختلف العلماء فيه، فيجوز أن يكون العهد ذكريًّا، بدلالة الآية التي قبلها: {ادْخُلُوا الجنَّةَ}.
ويجوز أن يكون العهد حضوريًّا، وذلك بعد دخول الجنَّة ومعاينتها، وهي التي كانوا يوعَدون بها في الدنيا.
وهذه الأقوال مسطَّرة في كتب التفاسير، لمَن أراد الرجوع إليها.
¥