لقد حاول كثير ممن تعرضوا لدراسة مشاكل اللغة العربية أن يحصروا هذه المشاكل في الإعراب، ورأوا أن في التخلص منه بالتسكين قضاء على أكبر صعوبات النحو.
ولعل من أقدم من هاجموا الإعراب جرجس الخوري المقدسي في مقال له بعنوان " العربية وتسهيل القواعد " نشر على أعمدة مجلة المقتطف سنة 1904م، حيث وجه فيه الكاتب هجومه إلى الإعراب الذي رأى فيه منبع الصعوبة في العربية، ورأى أن استخدام الحركات في أماكنها يعد عقبة في درس العربية، لأن قواعدها تقضي بوضع علامات آخر المعربات وهذا همّ يلازم الكاتب والقارئ والخطيب مدى الحياة، ولا يكتفي النحاة بذلك بل يطالبون الدارس بتصور علامات إعراب للكلمات المبنية الأواخر فكأني بهم أبوا إلا إجهاد قوى العقول لكي يزيد تململ الطلبة ونفورهم ... (33)
ثم تلاه قاسم أمين بحملته على الإعراب الذي يعد في رأيه مصدرا لكل ما يقع من لحن في قراءة العربية، وقد اتخذ من عدم وجود الإعراب في بعض اللغات الأوربية حجة يدعم بها رأيه، والحل في تصوره:" أن تبقى أواخر الكلمات ساكنة لا تتحرك بأي عامل من العوامل، بهذه الطريقة وهي طريقة جميع اللغات الإفرنجية والتركية أيضا، يمكن حذف قواعد النواصب والجوازم والحال والاشتغال ... (34)
ثم جاء بعده سلامة موسى الذي أدان اللغة العربية في كتابه " البلاغة العصرية " ووصمها بالنقص والصعوبة، وهاجم إعرابها (35)
أما إبراهيم أنيس صاحب " قصة الإعراب " فلم يكتف بالدعوة إلى التسكين، بل تجاوز ذلك إلى تأصيل مسألة التسكين بالتنقيب في التراث اللغوي العربي شاذه ومهجوره، كما ألغى وظائف الإعراب، وقد بسط رأيه هذا في كتابه " من أسرار اللغة "، وفي مقاله " رأي في الإعراب بالحركات " (36)
يقول:" يظهر أن تحريك أواخر الكلمات كان صفة من صفات الوصل في الكلام شعرا ونثرا، فإذا وقف المتكلم أو اختتم جملته لم يحتج إلى تلك الحركات، بل يقف على الكلمة الأخيرة من قوله بما يسمى السكون ويترتب على هذا الغرض أن الأصل في كل الكلمات المعربة أن تنتهي بهذا السكون، وأن المتكلم لا يلجا إلى تحريك الكلمات إلا لضرورة صوتية يتطلبها الوصل. ويمكن أن نستمد الخيوط الأولى لهذا الفرض من تلك الظاهرة التي ترتبط ارتباطا وثيقا بوصل الكلام، والتي يسميها النحاة " التخلص من التقاء الساكنين "
كما يرى أن الكلمات المنونة لا تنتهي في الحقيقة بحركة، بل تنتهي بنون ساكنة، فإذا وليها كلمة تبدأ بحرف ساكن، جرى عليها ما جرى على الميم في عبارة (جزاؤهُمُ العقاب)، أي: تتحرك نونها (37)
ويخلص في النهاية إلى قوله:" لهذا كله نرجح أن حركات أواخر الكلمات لم تكن تفيد تلك المعاني التي يشير إليها النحاة من الفاعلية والمفعولية ونحو ذلك، وإنما هي حركات دعا إليها نظام المقاطع وتواليها في الكلام المتصل، ثم إن هذا التحريك لم يكن ملتزما في كل الحالات ... أما الذي قد يُعيّن الحركة فيجعلها الضمة أو الكسرة أو الفتحة، فهو أحد عاملين طبيعة الحرف الواجب تحريكه، وانسجام الحركة مع ما يكتنفها من حركات (38)
وقد تكفل عدد غير قليل من الباحثين بالرد على إبراهيم أنيس ومن شايعه، وكانت بعض الردود غاية في العنف، مما أثار حفيظة محمد شوقي أمين الذي دبج مقالا بدأ فيه بالهجوم على المتمسِّكين بالإعراب قائلا:" ذلك هو شأن الإعراب ومكانته من اللغة يحسب المحافظون فيما يحسبون أنه حرام على البحث، وأنه باب موصد لا ينفتح لرأي، فهو عندهم مستعصم على الاجتهاد، لا يجنح إليه فكر، ولا يرقى مناطه قلم ... ما إن ينادي أحد من المحدثين بترك الإعراب، حتى يهب في وجهه المعارضون يرمونه بإحدى اثنتين أو كلتيهما، الأولى أنه يفسد اللغة، ويخل بمدلول الكلام، والأخرى أنه يعتل على الإعراب لقصوره وعجزه عنه (39)
ثم ذهب مذهب إبراهيم أنيس في تأصيل التسكين قائلا: " هل يعلم المحافظون الذين يثرون في وجه الدعوة إلى التنكب عن الإعراب أن أسلافهم منذ ازدهار العربية قبل ألف من السنين أو يزيد، تناولوا أمر الإعراب في مناح شتى من القواعد والأصول وما إليها من تفريعات وذيول على أساس من جواز ترك الإعراب، وتسكين أواخر الكلم في الوصل، فلم يقم في وجوههم من يصدهم عن النظر (40)
ثم أورد المصادر التي أسكنت أواخر الكلمات فيها:
¥